فيما مضى كانت المناسبات مختصرة ومتواضعة وفيها البساطة والنقاء ويحيط بها الود والإحترام والتقدير المتبادل ويدرؤون على بعضهم بعضا
والأمر شورى بينهم في تفاصيل التفاصيل ويُعِذرون ويَجِملون ويُعِينون على نوائب الدهر ، كما تُقام المناسبات في البيوت وذبيحة أو إثنتان أو حسب الحاجة الفعلية لأغلب المناسبات ، بإستثناء بعض الزواجات عندما يكون احد الزوجين من خارج القبيلة مع حرصهم بأن لا يكون هناك إسراف و لاتبذير وإذا فاضت الأنعم يقومون بتوزيعها فيما بينهم ، وكلاً يأخذ ماقُسم له ، لا عيبٍ ولا ريب لأنهم يقدرون النعم ويعرفون قيمتها ويرفعون قدرها .
بينما اليوم تنتشر موائد الطعام على مسافات متصلة يتجاوز البعض منها الثلاثين متراً ، عليها الكثير من المفطحات والقِعدان و على صحون ذواتا أفنان ، وعلى الجهة الأخرى ما لذ وطاب من الفواكه والتمور في زوايا المجالس وصالات الطعام بعدة أدوار في المناسبات العامة كالأعراس والتنصيب والترقية والتقاعد والمُلكة والبيت الجديد ، وتحت مسميات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان يُدفع فيها الآلف من الريالات في غمضة عين ، وكأنها ساعة حلم بعد ليلٍ طويل يفيق بعده الحالم وإذا به يضرب كفاً بكف ، فماذا جنى منها ، سوى الهياط وحب الظهور على نغمات الشعر والشعراء و الكيل بالمديح ، وعلى أصوات الشيلات ، معشي الذيب ، وذابح الحِيل ، والكف الندية ، وصفر الدلال .
فبعد مضي عدة أشهر أو بضع سنيين ، يبداء إرتداد تلك الأفعال
فتظهر على عدة صورٍ منها ، زيادة القروض من البنوك والمؤسسات المالية والأفراد أو التقسيط من المعارض ، ثم إيقاف الخدمات لفلان لعدم السداد ، ثم تحاول الإتصال فيرد عليك الهاتف إن هذا الرقم غير موجود بالخدمة مؤقتاً يرجى الإتصال فيما بعد ، طووووط طووووط .
هذه نتائج عكسية و متوقعة وإن حاول إخفائها عن الناس إلا أنها ستظهر على السطح فيعلم بها القاصي و الداني ( فأما الزبد فيذهب جُفاءً ) .
أنا هنا لستُ ضد إكرام الضيف أو إقامة المناسبات و الأفراح المتوازنة والمتعقلة لتقدير نعم الله علينا ، وحفظها من الزوال ،، لكنني ضد الهياط المبتذل والتبذير والإسراف وأن يُحمّل الإنسان نفسه فوق طاقتها كل ذلك لأجل السمعة والشهرة ليقال فلان وعلان ، كما وأن السعي خلف الشُهرة وبريقها بهذه الطريقة لا يُخلِف إلا الندم والحُزن والكآبة والكذب لأنك بين تأنيب الضمير وصراع النفس والهوى ،فما يمنعك أن تكون إنساناً طبيعياً وتتصرف على سجيتك وعلى المستوى المعيشي مع ربعك وناسك وبيئتك ، لا تُشطط ولا تجور على نفسك فتُهلكها بالديّن والهم والغم فحقوق الناس همٌ بالليل ومذلةٌ بالنهار فمن أعطاك مالاً سُلفةً رأك بعين منقصة مهما فعلت وكما يُقال ، ( رزق الأذكياء على المغفلين ) ،
فالكثير من المغفلين والسفهاء تتوق أنفسهم إلى الشهرة وحُب الظهور و أن يكون حديث الناس و مجالسهم ولو كان ذلك على حساب المبادئ و الدين والأخلاق والمروءة ، إنهم بهذا الهياط كمن يطرد السراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا .
فلعنا نتمعن سوياً هذا الحديث فعن رسولنا الحبيب صل الله عليه وسلم قال :
إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلَّم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (( ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسُحب على وجهه ثم ألقي في النار )) .
و بعد هذا كله (( اليس فيكم رجلٌ رشيد ))