بينا أنا أُقلِّبُ صفحات كتاب (البداية والنهاية) للإمام ابن كثير، وكنتُ قد أنهيتُه قبلُ، و عاودني الحنينُ له فقلتُ لِمَ لا أرتعُ في رياضِه و أتمهل في جنباتِه وأرسل النظرَ و أُعيدُ الكرَّة لعلَّ شيئاً منه يُرقِّقُ قلبي الصلدَ الجلمود، وإذا أنا مع حديث أبي ذرٍّ الذي رواه الإمام أحمد وجاء فيه:
عن أَبي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، أَطَّتِ السَّماءُ، وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ ساجِدًا لله تَعَالى، واللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُم بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرجْتُمْ إِلى الصُّعُداتِ تَجْأَرُون إِلى اللَّه تَعَالَى".
وأنا أقرأُ هذا الحديثَ أُصابُ بالغمَّ فلا أدري ماذا أقول ولا أدري ماذا أفعل وهل أنا إلا هباءةٌ في هذا الكون الفسيح عبر ملايين السِّنين وكيف لي أن أهنأَ و آياتُ الترهيب ونصوصُه تقرعُ سمعي صباحَ مساءَ ولا مُجيب لهذه القوارع ولا استجابه من الجوارح لتلك الزواجر
وأعود فأطمئِنُّ لآيات الترغيب ونصوصه التي وردتْ
و أطمعُ في رحمةِ الله طمعَ الذي لا يخشى العواقب اعتماداً على رحمة الله التي وسِعَتْ كُلَّ شيء، و أذكُرُ ابن ناقيا الأديب المُترسِّل كثير المجون والذي أورد قِصَّته ابن أيبك الصفدي، "حكى الذي تولَّى غسْلَه بعد موته أنَّه وجدَ يده اليسرى مضمومةً، فاجتهد حتى فتحها، فوجد فيها كتابةٌ بعضُها على بعض، فتمهَّل حتى قرأَها، فإذا فيها مكتوبٌ":
نزلتُ بجارٍ لا يُخيِّبُ ضيفَه
أرجِّي نجاتي من عذابِ جهنَّمِ
وإنِّي على خوفٍ من الله واثقٌ
بإنعامِه فالله أكرمُ مُنعِمِ
يا ابنَ ناقيا نحنُ و الله أطمعُ منَّك ولا ريب أنَّك قدِمتَ فعلِمتَ.
ولا شيء في الدنيا أصعبُ من الاتزان فلا يجنح نحو جهةٍ على حسابِ جهة فيختلَّ التوازنُ وتطيشَ المعاييرُ و عندها "فلات ساعةَ مندمِ"
و الاعتدالُ والقصْدُ عليهما مدارُ أمرِ الدين و الدنيا، ألم ينهَ الدينُ عن الغلو؟ و ما الغلوُ إلا نوع جنوحٍ و عدمَ اتِّزان
فلا تَقعدُ وساوسُ الشيطانِ بالمسلمِ وتُنسيهِ رحمة ربَّه
ولا يُفرِّطُ المسلمُ اعتماداً على رأفةِ ربِّه فيمسي ملوماً مدحوراً، ولا يتحقَّقُ هذا إلَّا بالاستمرار في المحافظة على التوازن النَّفسي والاجتماعي، وهذا قانون أبي النَّجم العجلي الفيزيائي للتوازن:
عليك بأوساط الأمورِ فإنّها
طريقٌ إلى نهجِ الصّوابِ قويمُ
ولا تكُ فيها مُفرِطاً أو مفرِّطاً
كلا طرفي قَصْدِ الأمورِ ذميمُ
وقد استوى المقال على سوقِه وبقي لنا أن ندعوَ الله برحمتِه على كل الأحايين و في كل الأحوال فلا يأس مع الدعاء
كيف و قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
"من لم يسأل الله يغضبْ عليه".
(رواه الترمذي) وهو حديث صحيح