منذ نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا, وبعد أن فرضت التحالفات الدّولية عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا, بدأ شبح أزمة الغذاء العالمية يتشكّل ويهدّد دول العالم التي تعتمد اقتصاداتها على حبيبات القمح الأوكرانية مثلما يعتمد الاقتصاد فيها بشكل أساسي على النفط والغاز الرّوسي الذي يشكّل عصب الحياة الاقتصادية في دول أوروبا وأمريكا, الأمر الذي جعل روسيا تلجأ للتهديد بقطع امدادات الغاز عن الدول الغربية وتسيطر على حقول القمح الاوكرانية لأجل أن تعرقل و تمنع تصدير الحبوب عبر الموانئ الاوكرانية بهدف الضغط على أوروبا وأمريكا لرفع العقوبات الاقتصادية عنها مقابل تخفيف القيود المفروضة على تصدير الغاز و شحنات القمح الأوكرانية.
وبرغم المساعي السياسية الحثيثة والمحادثات المزمع اجراءها في تركيا خلال الايام القادمة لإيجاد حلول للأزمة الغذائية التي أدّت الى ارتفاع معدّلات التضخم الاقتصادي في عدد من دول العالم, الا أن مصادر اعلامية اوكرانية سرّبت مؤخرا معلومات عن قيام روسيا بحرق 6 هيكتارات من حقول القمح في أوكرانيا و منعت سفن الشحن من عبور الموانئ الاوكرانية باتجاه الدول التي تعاني من نقص حاد في واردات القمح الاوكراني.
ومن هنا اتساءل و أقول لماذا تستخدم روسيا سلة غذاء القمح الاوكراني لتهديد دول العالم المستفيدة من هذه السلة بشبح المجاعة رغم أن هذه الدول " لا ناقة لها ولا جمل" في اندلاع واستمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟!! أ ليست روسيا هي من شنّ الحرب وبالتالي عليها أن تتحمّل تبعات التّوغل في الأراضي الأوكرانية رغم مناشدات الأمم المتّحدة بالتوقّف وانهاء النزاع العسكري؟! فلماذا اذا تسعى روسيا الى فرض سياسة الأرض المحروقة داخل الأراضي الأوكرانية و تحرم الدّول الفقيرة من الحصول على حصّتها من القمح الاوكراني؟!!
لقد شاهدت حروبا كثيرة خلال حياتي و قرأت في التاريخ عن حروب أخرى راح ضحيتها الملايين من البشر, غير أنها كانت حروبا نزيهة وشريفة من حيث التزام الأطراف المتحاربة بقوانين الحرب وأصولها, ولم تُستغل الثروات الطبيعية والمحاصيل الزراعية آنذاك في تصفية الحسابات العسكرية كما يحدث اليوم من استغلال روسيا لحقول القمح وغلق أنابيب الغاز أو منع تصديره لدول العالم كورقة ضغط تفاوضية لتحقيق مكاسب سياسية وأخرى عسكرية على الأرض الأوكرانية.
ان كان لروسيا حق استخدام النّقض الفيتو في مجلس الأمن الدّولي باعتبارها أحد الخمسة الكبار, فليس معنى ذلك أن يكون لها حق استغلال و حرق الحبوب الاوكرانية كوسيلة ضغط على الدّول الكبرى والصغرى لحرمانها من حبوب القمح الاوكراني وبالتالي فرض المجاعة على شعوب العالم قاطبة.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان " أزلية فرض العقوبات في فكر المخلوقات", فان الفكر الانساني غير الحكيم لا يتوانى عن خلط الأوراق والتّلويح حتى برغيف الخبز كإشارة لتجويع الجياع وغير الجياع اذا ما أعلنوا رفضهم القبول بالمطالب الرّوسية في المفاوضات مع دول حلف شمال الاطلسي. وهذا ما يفعله الدّب الرّوسي اليوم بقطعه امدادات القمح الاوكراني عن بقيّة دول العالم تكريسا لمبدأ فرض القوّة على حساب حقوق الانسان ومنها المحافظة على الأمن الغذائي وفتح المعابر والموانئ أمام حركة السفن التي تنقل المواد الغذائية من اوكرانيا الى دول أخرى فقيرة في الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق آسيا.
وعموما اتساءل من هذا المنبر الصحفي وأقول كيف يمكن لدول العالم مواجهة هذا التحدّي لتأمين الاحتياجات الغذائية لشعوبها في ظل السّيطرة الرّوسية على الحقول الاوكرانية من ناحية, وفي ظل امتناع روسيا عن ضخّ الغاز الرّوسي الى أوروبا وأمريكا من ناحية أخرى؟! فالحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا لها تداعيات خطيرة وانعكاسات اقتصادية سلبيّة على كل دول العالم كما أوضحت ذلك في مقال سابق بعنوان " نذر الحرب بين القطبين المتنافسين", ذلك أن الدّعم الأوروبي والأمريكي لأوكرانيا سيطيل أمد الحرب مع روسيا وربما يشجّع الدّول المارقة والحركات الانفصالية لانتهاك القانون الدّولي وتهديد الأمن والسّلم الدّوليين.
ولذلك أرى ضرورة تشكيل تحالف اقتصادي عالمي يعتمد على استراتيجية اقتصادية تضمن لشعوب هذا التحالف توفّر احتياطيات كبيرة من كل أنواع الغذاء لاسيما حبوب القمح التي يعتمد عليها الانسان في حياته اليومية, بحيث تسارع دول هذا التحالف الى زراعة مساحات واسعة من اراضيها لإنتاج القمح والشعير والمحاصيل الزراعية الأخرى ذات الأهمية الغذائية لكل شعوب العالم. وبذلك يمكن أن تتفادى دول العالم شبح الأزمة الغذائية التي تسعى روسيا لفرضها لأجل تحقيق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية من وراءها, فضلا عن تخفيض معدلات التّضخم في أسعار المواد الغذائية اذا ما ساهمت دول التحالف الجديد برصد ميزانيات هائلة لدعم مشاريع انتاج الأغذية عموما وانتاج حبوب القمح تحديدا.