أرسلَ إليَّ مَنْ نَعَتني بنعُوتٍ ليس منها واحدٌ ينطبِقُ عليَّ، وما وجدتُ تفسيراً لهذا إلَّا صفاءَ الصِّدق في الظنِّ من هذا الصديق، فرددتُ عليه من لحظتِها ردَّاً ارتمى على لساني فأخرجتُه كما هو.
أحسنتَ ظنَّكَ في عبدٍ لجوجٍ مسرفٍ على نفسه، قد امتلأَ جرابُه بالخطايا، فتلك منك والله بادرةُ حُسْن، ووشيجةُ صِلة، وطيب فأل، أمّا ما ذكرتَ من الأدبِ فلستُ منه في قليلٍ ولا كثيرٍ ولكنَّني محبٌ يشتكي وصبَ المُقطَّعاتِ الأدبيةِ، والأشعار، والنوادر المُطربة، التي تُستدفعُ بها بلايا الدَّهر، ومشكلات الزمان، ونحن منها على خطر ننتظر ونرى العِبَر ولقدْ أحسنَ ذاك الذي قال:
والليالي من الزمانِ حُبالى
مُثْقلاتٌ يلدنَ كلَّ عجيبِ
بين نِثار الكتبِ وثمارِ الأوراق قضيتُ ساعاتٍ وساعات وأقول في نفسي وفي ملأٍ من النّاس ما تُطاق الحياة إلا لعابدٍ زاهد قد باع العاجلةَ بالآجلة، أو متضمخٍ بعبق الأوراق يجلس إلى أصحابها وينادمهم ويطلبُ عندهم ما عدِمه في عصر الرأسمالية المادية المتوحشة، على تلك الأرفف وجد نفسَه مُحاطاً بتلك المجلدات فمتح منها سَجْلاً وروَّى وارتوى.
ولقد قرأتُ مقالاً للمازنيِّ وهو في أصلِه محاضرةً ألقاها، وفيه لمحةٌ رائقةٌ لطالما بحثتُ عنها فلم أجِدْها إلى أن طالعتُ ذلك المقال ولا أدري جهلي كيف ساقني إليها و إلَّا فمعناها دون لفظِها موجود، لا أدري ولكن قدَّرتُ ذلك لعمق إيماني بمساحةِ جهلي، وفيها يذكُر:
"إنَّ الواجبَ أن يبدأ بالاطِّلاعِ على الأدبِ اطِّلاعاً كافياً؛ لأنَّ الأدبَ هو تفسيرُ الإنسان للحياة، وهو يُعمِّقُ النَّفس، ويوسِّع الأفق؛ فلا غنى بأحدٍ عنه، إلا إذا كان يريدُ أن يستغنيَ عن فهم الحياة"(١)
وهذي النَّصيحة من المازنيِّ تنبني على أهمية قراءة الأدبِ لاستشفاف المعاني الإنسانية والسجايا الأخلاقية لبني البشر و تشكُّلِ الوحداتِ الاجتماعيةِ المتشابِهة فيما بينها على اختلاف البيئات، و إنَّما هناك مُشتركاتٌ يُفسَّر من خلالها الفعل ورد الفعل، ومع اتِّساع دائرة فهم الأدب في هذا الوقت يكون للقارئ حرية النَّهْل من كل المشارب والأجناس الأدبية لتتَّسع الرؤية و يسهل فهم الحالة التركيبية للإنسان اعتماداً على الوفرة الحاصلة من الآثار الأدبية المُتباينة، ولا يجوز إغفال الأدب الشعبي الشفوي الذي لم يُدوَّن ولم تجرِ عليه أقلامُ الأدباء والروائيين ومؤلِّفي المسرح في المجتمعات البدائية والمتوارية عن أعين روّاد القلم.
و لا شكَّ أنَّ الأدبَ هو امتزاجٌ مع المجتمع وتماهي الذات في أبسط صور الانفعال البشري بصورة متناغمة مع الواقع، وكما قيل: مَن قرأ في كتب الأدب رقَّ طبعُه، فهذه طبيعة الإنسان إذا تصالح مع محيطه وعلِمَ أنّ الأمور ليست بتعقيداتها التي تثني المرء عن العيش بطبيعته الحقيقية وليس التكلف المُمِضّ المتلف للأعصاب، عندها فإنَّ كلَّ معرفةٍ في الأدب ستُضئ له طريقه.
و الأدب بأهميته ليس كما ينظُرُ إليه الذين سُلِبوا النظرة الجماليةَ والفنية في التزام تراثِهم الأدبي واللُّغَوي، فتخبَّطوا في فهم قضايا أُمَّتِهم حتى أصبحوا يُساقونَ من السينما العالمية التي ما هي إلا روايات مُثِّلت بأفلام سينمائية لتُشكِّل نفسية أولئك الآبقون و المستخِفُّونَ بآثارهم الأدبية، لكنَّهم وقعوا في تصور جديد للكون والحياة والدين لا يمُتُّ لهم، ولذا ذُكر عن ستالين أنَّه قال: "الأُدباء مهندسو البشرية".
١-العمر الذاهب، آفاق المعرفة، صـ١٥٤