لا أريدُ أنْ أُنَمِّقَ العباراتِ في مدخلِ هذا الكلام وإنّما أودُّ أن يكونَ حديثاً مُباشراً هذا الذي أَسْرُدُه لكم، ومُفيداً ومُثرياً ، وهو عن كتابٍ فرغتُ منه قبل أيامٍ من كتابتي لهذا المقالِ، ولا أزالُ أجدُ طعمَه في فمي؛ إن كان للكتبُ طعومٌ كما للأطعمةِ مذاقاتٌ وطُعومٌ، و قد كفانا مُصَدِّري التَّفاهاتِ في وسائل التواصل الاجتماعي وصفَها! وهم أبرعُ النَّاس في الانهماكِ إن مُدت الأيدي إلى الزاد هم وأضرابهم من مُنتِّجي البلادة و السُّخف! الذين ابتُلينا بهم في هذا الزمان وقدَّر الله وجودَنا معهم في هذه الحقبةِ التاريخيةِ.
إنْ كان عِندكَ يا زمانُ بقيَّةٌ
ممّا يُهانُ به الكرامُ فهاتِها
(ماذا علمتني الحياة) هو للكاتب الاقتصاديِّ جلال أمين ابن الأديب أحمد أمين صاحب ضُحى الإسلام وفجره وظهره ويومه ، و قد عرفتُ نفسي عندما أقرأ كتاباً يهزني من أعماقي يتملَّكُني حتى أُعبِّرَ عن هذا الاهتزازِ وفقَ ما يُمليه عليَّ الخاطرُ النشوانُ بهذا الإثراءِ المعرفيِّ وتلك التّجارب الغنيَّة التي توحي بظلالِها على القارئِ، وتُفتِّق وعيَه على تشابُهِ التجربةِ البشريةِ وإنْ اختلفتْ التوجُّهاتُ والأطُرُ الفكرية.
تُقدَّرُ الصراحةُ أحياناً في الكاتبِ لأنَّها تُمدُّ القارئَ بتصوراتٍ رهيبةٍ تكشفُ عن خبايا البشر وانفعالاتهم هذا إذا كانت المرجعية ليستْ بمانعةٍ لأولئك عن الاندراج في مسارب الخطيئة والتلطُّخِ بها.
أعقبتُه بقراءة (رحيق العمر) وهو الكتاب الذي أتى بعد أن لاقى الأول نجاحاً بيِّناً، ولْندعِ الرحيقَ حتى يأتي بحثُه.
والكتب أمرها عجبٌ من العجب تحملُ في أطوائِها أفكاراً تُغيّر المُجتمعاتِ وتصنعُ شخصياتٍ فارقةً في التاريخ وكم صنعتْ وكم قدَّمتْ حلولاً لأعقد المصاعب، وذلك أن أي مجموعة من الجنس البشري لا تتخذ الكتاب إماماً ودليلاً فأينما اتَّجهت فهي لا شكَّ مخذولة وستنتهي إلى البوار والخسران وشواهد التاريخ تصرخ في كل وادٍ على ذلك.
يُعرِّج جلال أمين على وظيفةِ التدريسِ وأهميتِها في فهم المسائل التي تصعب على المُحاضِر، ويثني ثناءً عرفناه من أفواه أهل الدرس في مؤلفاتِهم لكثرة ما وجدوا من الفوائد الجمَّة وكيف تتكشّف لهم أفكار جديدة أثناء إلقاء الدرس، وهو من بركة نشر العلم التي إن صادفت الإخلاص وحواها الوعاءُ الإسلاميُّ طاب والله الثمرُ وطابت الحياةُ وإذا اتَّصل هذا وصل معه إلى القبر،
قال صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم؛ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ:- وذكر منها- أو علم يُنتفعُ به" يقول: "والحقيقة أنني مَدِينٌ للتدريسِ بكثيرٍ من مقالاتي وكُتُبي، فإذا كان لبعضِها بعضُ النفع فهو بلا شك نابعٌ في الأصل من خوفي من أن أقول كلاماً غير مفهومٍ. لكلِّ هذا أعتبر نفسي سعيدَ الحظ، إذْ كانت الوظيفةُ التي أكسبُ منها رزقي تجلبُ لي كُلَّ هذا القدرِ من السرورِ والرِّضا"(١)
مراحلُ متعددةٌ مرَّ فيها جلال أمين في مسيرتِه بين تيارات الفكر المادية، فمن أفكار البعث، إلى الماركسية بجدليتِها المادية في تفسير التاريخ وأسبقية المادة على الفكر، ثم إلى الوضعية المنطقية المُقصِية للميتافيزيقيا أي: علم الغيب، انتهاءً بالحداثة، وهذا نتيجة الاغتراب عن التراث والقيم الإسلامية، الذي يتخبطُ به العلمانيون العربُ دائماً مصدره الزيغ عن الوحي، وإلا لهانت المسألة! ولكنَّهم في ريبهم يترددون.
(١)ماذا علمتني الحياة، جلال أمين، صــ٢٤٧