وجدتُني وأنا أكتبُ عنوانَ هذا المقال الذي هو أولُ ما
ابتدأتُ به الكتابةَ حين تحرَّكت فيَّ نحيزةُ التعبيرِ عن مكنونِ النَّفس، وذلك لأنَّه واضحُ المعالم بيِّن القسمات لا حاجة إلى إعمال الذِّهنِ فيه، و هو إخبارٌ عن حقيقة متجلِّية.
ففي اليومين الماضيين أعدتُ قراءة كتابين للأديب المعروف عباس محمود العقَّاد (عبقرية عمر)
و (عبقرية الإمام علي) وجذبتني إليهيما دواعٍ كثيرةٌ ومعانٍ عظيمةٌ آثرتُ أن أشارككم معاشرَ أربابِ المطالعةِ إيَّاها، والعبقريتان حين التدقيقِ فيهما يصنعان خيطاً ناظِماً من المبادئ والقواعد التي تستثيرُ الإعجاب في كلا العبقريتين ويمتلئ بهما القارئُ فيضاً شعورياً طافحاً.
فمن العدل الذي هو أسمى المطالبِ الإنسانية وخاصَّة حين يبدأُ العادلُ بتطبيقه على نفسِه، فلا مكان هنا لظنِّ ظانٍّ ولا تخرُّصِ مُتخرِّص، فيُغني عن سردِ ما الذي فعله عمرُ وعليٌّ بنفسيهما في هذا غَنَاءُ المصادر التاريخية التي امتلأت بعدل عُمرَ وإنصافٍ عليٍّ رضي الله عنهما.
والخصلة الثانية تلك الملكةُ الأدبيةُ الدفَّاقة، والبلاغة العربية الباذِخة؛ التي يندرجُ تحتها النقدُ الأدبي الذي يخرج من مشكاة اللغة والتمكُّن منها عن اقتدارٍ واستجلاءٍ ، فالإمام علي عُرف عنه قرضُ الشعرِ ورُوي له وإن كان القدر الكبير منه منحولاً عليه، أمّا خُطبُه فلسنا مَنْ نُعرِّفها الناسَ وقد امتلأت صفحاتُ أمهاتِ كتب الأدب والتاريخ منها، وقد جُمعتْ في كتاب نهج البلاغة وشرحَها ابنُ أبي الحديد وتوفَّر عليها بياناً واستشهاداً، يقول خالدُ بنُ عبدالله القسري وهو الخطيب المِصقَع-عندما سُئِل عن سرِّ خطابتِه وبلاغته واسترسالِه في الخُطب-: "حفظتُ ألف خُطبة للأصلع فغاضتْ ثمَّ فاضتْ" والأصلع هو علي بن أبي طالب ولعل هذه الصفة تتشابه في الخليفتين.
أمَّا القضاء والذي هو من أكثر المناصب تكليفاً وحساسية فكان لكلا العبقريتين القِدْح المُعَلَّى فيه، كان عُمر قد وليَ القضاءَ لأبي بكر عامين أثناء خلافة الصِّدّيق رضي الله عنه وكانت هذه فيه في الجاهلية حيث كان يُحكِّم في المنافرات وكانت له سفارة قريش.
فقعَّد عمرُ قواعد مهمة في القضاء و اشترط شروطاً في القاضي، قال: «لا ينبغي أن يلى هذا الأمر (أي القـضـاء) إلا رجل فـيـه أربع خصال : «اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف، والإمساك في غير بخل، والسماحة في غير سرَف» .(١)
وكتبَ إلى عُمَّاله كتاباً واحداً : «لا تستقضين (أي لا تولِّ القضاءَ) إلا ذا مال وذا حسب، فإن ذا المال لا يرغب في أموال الناس، وإنَّ ذا الحسب لا يخشى العواقب بين الناس».(٢)
وكان علي بن أبي طالب من أقضى الصحابة وعندما تتعقد القضايا كان عمر رضي الله عنه يستدعيه ليفصل بها، ويقول الفاروق بعدها: "قضيةٌ ولا أبا حسنٍ لها" وفي هذه العبارة شاهدٌ للنحاة.
(١) الفاروق عمر، عبدالرحمن الشرقاوي، دار الشروق، صـ٢١
(٢) نفس المصدر، صـ٢١