ما أكثر العاشقين المغرمين بأوطانهم في كل زمان ومكان. جُبِل الإنسان على التعلّق بالمكان الذي ولد فيه، حيث قلّته أرضه، وغطّته سماؤه، وشرب من مائه، وأكل من نبته. أرض الإنسان هي أمه الرؤوم التي تحنو عليه من ولادته حتى مماته، وكما قال هايل: (إننا ننتمي إلى أوطاننا مثلما ننتمي إلى أمهاتنا). إن صورة الانتماء هذه؛ تعكس حاجة الإنسان لوطنه، مثلما هي حاجته لأمه التي ولدته. إن أصدق مثال لهذه الوشائج الحبية الوفية بين الإنسان والمكان؛ ما قال به رسولنا المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وهو يغادر مكة مرغمًا مكرهًا، فقد نظر إليها بعد أن أخذ طريقه نحو يثرب مهاجرًا وقال: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) رواه الترمذي.
تكلم كثرة من العاشقين المحبين لأوطانهم من كافة البلدان. ترجموا أحاسيسهم المرهفة شعرًا ونثرًا في حب أوطانهم، مبدين عشقهم لها، وولههم بأرضها وكل ما فيها، ووجدت أن أصدق هؤلاء جميعًا من العرب خاصة؛ من أجبر وأكره على الهجرة والبعد عن وطنه، فظل يصطلي بنيران البعد والغربة، تمامًا مثل ما وقع مع رسولنا الأمين- صلوات الله وسلامه عليه- ويأتي في طليعة هؤلاء جميعًا؛ أدباء وشعراء المهاجر. وما أكثرهم. وحال هؤلاء في غربتهم كما قال محب الدين الخطيب:
تحن الكرام لأوطانها
حنين الطيور لأوكارها
وتذكرُ فيها عهود الصبا
فتزداد شوقًا بتذكارها
أو كما ورد عن شاعر عربي مجهول، حيث قال:
ذكرتُ بلادي فاسْتَهَلَّتْ مدامعي
بشوقي إِلى عهدِ الصِّبا المتقادمِ
حننتُ إِلى أرضٍ بها اخضرَّ شاربي
وقطِّع عني قبل عقدِ التمائمِ
وقديمًا طلب الشاعر مرار بن هباش الطائي من صحبه قبل وفاته؛ أن يحملوه إلى وطنه، ويدفنوه في أرض طفولته وصباه. وأنشد قائلاً:
سقى الله أطلالاً بأخيلةِ الحِمَى
وإنْ كنَّ قد أبدَيْنَ للناسِ ما بِيَا
منازلُ لوْ مرّتْ بهنَّ جِنازتي
لقال صدايَ: حامليَّ انْزِلا بِيَا
* هناك فريق آخر من هؤلاء العشاق؛ لا نشك في حبهم لأوطانهم ودفاعهم عن بلدانهم، وهم يضربون المثل الأعلى في تمتين الصلة بين الإنسان ووطنه، ويرسخون فكرة الحب المقدس لأوطانهم دون شك. خاصة إذا كانوا يعانون وهم في أرضهم الأم. وهناك فريق ثالث- لا أكثر الله من أمثالهم- تجدهم يدعون الغيرة على أوطانهم؛ إلا أن ظاهر أفعالهم كله؛ خزي وعار، فمنهم من باع نفسه رخيصة، وانخرط في خدمة أعداء وطنه، يسفك دماء إخوانه، ويدمر أرضه خدمة لعدو خارجي، ثم ينهق ليل نهار بحب الوطن والدفاع عنه، وهم ليسوا أكثر من دمى تتحرك على أراضٍ عربية تدوسها أقدام الفرس الصفويين ومن هم على شاكلتهم. وهذا مثال ظاهر نعيشه اليوم في العراق وسورية ولبنان وغزة واليمن. هؤلاء الأذناب؛ هم كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (ليس بالضرورة أن تكون عميلاً لتخدم أعداء الوطن... يكفي أن تكون غبيًا).
* اجتمعت قبل عدة أشهر في دار صديقنا الأستاذ عبدالله الحصين الثقفي في وادي نعمان بين الطائف ومكة؛ بالشاعر والأديب العراقي طه الدليمي، الذي تحدث طويلاً عن الشأن العراقي في حفل تكريم له، وذكر معاناته مع غربته بعيدًا عن وطنه طيلة سنوات بعد غزو العراق، ثم عرج فألقى علينا قصيدة معبرة حقيقة، قال بأنها نشأت وهو يتابع على التلفزة؛ حفلاً شعبيًا كبيرًا يرعاه (الملك عبد الله بن عبد العزيز)- رحمه الله- في موسم الجنادرية للعام 2009م، فدمعت عيناه للمشهد الحبي الوطني الذي لا مثيل له، خاصة وقائد المملكة ورائدها ورأسها؛ ينهض من مقعده محييًا فرقة شعبية تظهر على المسرح وهي تقدِّم أنشودة وطنية، ثم يتفاعل معها بكل حماس، ويرفع يده وسيفه راقصًا بالعرضة النجدية، فينهض الحضور في الحفل راقصين فرحين في ملحمة وطنية قلّ نظيرها. يقول الشاعر طه الدليمي من ضمن هذه القصيدة وهي طويلة:
يا لائمي في الهوى جهلاً كما جهلوا
تجري العيونُ بما لا يشتهي الرجُلُ
تهمي إذا رأت العينانِ في بلدٍ
عقيدَ قومٍ به الجمهورُ مُحتفلُ
يكادُ إنْ لَوّحَتْ يُمناهُ يرفعُهمْ
إلى السِّماكِ ولو شاءوا السما وصلوا
نفوسُهمْ مرَحٌ.. وجوهُهمْ فرَحٌ
قلوبُهمْ ثقةً بالنصرِ لا تَجِلُ
وقفْتُ ما بينَهمْ حيرانَ مُنكسِراً
أقولُ سرّاً وثوبُ الحُزنِ منسدلُ:
كلُ البلادِ لها رمزٌ يمثّلُها
إلا العراقَ فلا رمزٌ ولا مثَلُ
* من يقرأ تأوهات عشاق الأوطان في غربتهم، يتذكر قوله (ثيودور أدورنو) الشهيرة: (بالنسبة للإنسان الذي لم يعد لديه وطن؛ تصبح الكتابة مكاناً له ليعيش فيه). الكتابة شعرًا ونثرًا وطن. ذلك أن الوطن بحق؛ هو المكان الذي قد تغادره أقدامنا، لكن تظل قلوبنا فيه حتى الممات. إن الشتات والغربة؛ يعصفان اليوم بكثير من العرب، الذين أكرهوا وأجبروا على الخروج من ديارهم تحت طائلة الخوف والجوع والمرض. تفرّقوا في بلدان وأقطار عدة، فلم يعد من رابط بينهم وبين أوطانهم إلا الحب.. حب الوطن الملازم للصادقين منهم. كيف لا وهم الذين فقدوا في الوطن حنان الأم، كما جاء في تعبير للشاعر المرهف غازي القصيبي -رحمه الله: (الوطن هو رغيف الخبز والسقف والدفء والشعور بالانتماء والإحساس بالكرامة).
* الوطن حب.. الحب وطن، حب في الحل والترحال، وأنس في الغربة. الوطن هو الأهل والعشيرة، هو الأم والأب والحبيبة. حب مقدس كما رآه نزار قباني ذات يوم: (أحاول سيدتي أن أحبك خارج كل الطقوس، وخارج كل النصوص، وخارج كل الشرائع والأنظمة. أحاول سيدتي أن أحبك في أي منفى ذهبت إليه، لأشعر حين أضمك يوماً لصدري؛ بأني أضم تراب الوطن).