قرش في غير بلدك.. لا لك ولا لولدك. مثل شعبي كنا نسمعه من آبائنا وأجدادنا. وهو من الأمثال السائرة في بلادنا وفي بلاد عربية كثيرة فيقولون: مالك في غير بلدك؛ لا لك ولا لولدك. إلى غير ذلك من الصيغ التي تؤدي المعنى ذاته. ومع أن ما يمر على الأمم والشعوب وحتى الأفراد على مر الأيام يثبت صحة وصدق هذا المثل؛ إلا أن الناس هم الناس في شرق الدنيا وفي غربها، لا يتعظون ولا يتعلمون من تجاربهم، فكم من ثروات طائلة؛ ظن أصحابها أنها في مأمن بحكم القوانين والاتفاقيات والمعاهدات والصداقات المعلنة؛ ولكنها سرعان ما تضيع وتُنهب بسبب خلاف بين دولة ودولة، أو شخص ومؤسسة وبنك، أو تحايل وتسلط من عصابات تحميها تلك القوانين وحقوق الإنسان التي يدعون أنهم أهلها ورعاتها وحماتها، وهي في حقيقتها مجرد شعارات ترفع للتضليل، وأدوات ابتزاز وتسلط ضد هذه الدولة أو تلك، ويستخدمها هذا الحزب أو ذاك ليصل إلى سدة الحكم في بلده لا غير.
* كشفت الحالة الأوكرانية اليوم؛ الكثير من التناقضات في السياسات الإدارية والاقتصادية والمالية العالمية- وحتى العسكرية- التي تحكم الكثير من دول الغرب والشرق، تلك التي شغلت العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بقضايا حقوق الإنسان، والحريات العامة والخاصة، فإذا هي أول من ينتهك هذه الحقوق في ليلة وضحاها. تغامر حكومة أوكرانيا بالإعلان عن رغبتها الالتحاق بالمعسكر الغربي؛ منسلخة بذلك من جوارها وتاريخها وجغرافيتها وتركيبتها السكانية، التي هي أقرب إلى روسيا من أي بقعة في هذا العالم، فيجن جنون روسيا، ويبدأ الاجتياح الذي يهز دول أوروبا الغربية وأميركا، وتبدأ من هنا سلسلة من التداعيات الخطيرة، التي تنسف كل ما هو معقول في العرف الإنساني عبر التاريخ. إن دائرة الخطر آخذة في التمدد والتوسع، حتى أنه لن يسلم منها أحد لا في شرق الكرة الأرضية ولا في غربها، هذا إذا لم يصل الأمر إلى درجة الانفجار الكبير المؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، في ظل التعامل الرقمي على كافة المستويات الإدارية والفنية والمالية، وحتى العسكرية، والتقنيات العلمية غير المسبوقة؛ التي جعلت أعتى الأسلحة المدمرة طوع لمسة زر لا غير.
* ما يلفت في هذه التداعيات الناتجة عن الأزمة؛ هو الأضرار المالية والتجارية والاقتصادية السريعة، التي أخذت تتسع وتكبر مع مرور الأيام. إن ما صدر ويصدر عن أطراف النزاع؛ من فرض عقوبات ومقاطعات، وتوقيف خدمات ومعاملات شملت دولًا ورؤساء دول وشخصيات كبيرة وصغيرة، وحتى أفراد لا ذنب لهم إلا أنهم من هذه الدولة أو تلك.. كل ذلك مما يشكل خطورة على مستقبل العلاقات الدولية والمجتمعية والمالية، وما يقلل من قيمة وأهمية الاتفاقات الدولية، والاستثمارات المالية، والمنظمات التي تقول إنها إنسانية، وأنها تسهر على حفظ حقوق الإنسان في كل مكان..! وحتى أن دولًا مثل سويسرا والسويد وفنلندا وغيرها كانت تقول إنها حيادية؛ تخلت بسرعة عن هذا الحياد المعلن، واختارت أن تكون طرفًا في الأزمة..! ليس هذا فقط؛ ولكن المتابع للخطاب الإعلامي الغربي هذه الأيام؛ يشعر أن الغرب بكل دوله؛ يسعى للمواجهة مع روسيا بأكثر مما يسعى لها بوتين، وأنه حتى التهديد بالنووي من قبل بوتين؛ لم يؤثر فيهم للتراجع، خاصة وهم الذين زرعوا أكثر من 26 مركزًا للسلاح البيولوجي الفيروسي القاتل في أوكرانيا وحدها، إضافة إلى مئات المراكز حول العالم.
* الواقع أن ما يجري اليوم من مصادرة للأموال والمدخرات والأرصدة البنكية لروسيا الدولة، أو لرعاياها، أو لمستثمرين منها في العواصم الأوروبية والأميركية ليس بجديد. إن نشوب الأزمات في العلاقات السياسية بين الدول عادة؛ يؤدي إلى مصادرة الأموال، وإلحاق الضرر برعايا هذه الدولة أو تلك، أو حتى احتجازهم، ومن ثم طردهم مجردين مما يملكون وعرايا، كما تفعل بريطانيا مع 800 روسي مقيم على أرضها إقامة شرعية بتشجيع منها، ورغبة في استثمار أموالهم في أراضيها التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات..! هذا ما يجري اليوم على صعيد أكثر من دولة أوروبية، ومن قبل أميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا، وحتى اليابان، يلاحق المواطنون الروس، فتسحب جنسياتهم وإقاماتهم، وتصادر أموالهم ومساكنهم ويخوتهم وطائراتهم، ويؤمرون بالخروج من شققهم بدون ملابس..!
* المفيد في هذه الحالة التي نتكلم عليها؛ فيما يختص بحقوق الإنسان المنتهكة اليوم من قبل حاضني منظماتها، والمدعين رعايتها في العالم على مستويات دول وليس مؤسسات أو أفرادا.. المفيد: هو الدرس الجديد القديم الذي ينبغي أن يعيه كل صاحب عقل وهو: (مالك في غير بلدك.. لا لك ولا لولدك). كم من سعودي وخليجي اغتر وغامر بشراء عقارات، وفتح قنوات استثمار في هذا البلد أو ذاك، ثم فقد كل ما يملك؛ بسبب سوء علاقات دولية، أو سطو متنفذين وفاسدين في البلد المضيف. توجد قصص كثيرة نعرفها تذكر بهذه المناسبة، فالحذر الحذر. وقرشك في غير بلدك.. لا لك ولا لولدك.
عبّر عن رأيك