بعد أن أتت على الناس سنة ثالثة؛ فيها رُوَّعوا فخافوا، وتباعدوا فتوحشوا، ثم عرى وجاع منهم خلق كثير، ومرض ومات خلق آخر لا عد لهم ولا حصر. بعد هذا الوباء الوبيل؛ جاءت بشائر الانفتاح التدريجي، وخاصة في بلادنا المحفوظة بعناية الله وأمنه. هل انتهى زمن كورونا..؟ أم هناك في قادم الأيام موجات وصولات لكورونا؛ وما يستجد من أوبئة فتاكة؛ قد تكون ناتجة عن الاستثمار العالمي في برامج الأسلحة البيولوجية الخبيثة، للعبث بحياة البشر..؟!
* هذه قراءة أدبية مبسطة؛ أجدها مناسبة في وداع وباء كورونا- إن صدق في وداعه وهو كذوب- ربما كانت صورة (موحشة)؛ مما يمكن استدعاؤه من أدبيات الأمراض والأوبئة الفتاكة؛ التي كانت تجتاح الكرة الأرضية في قرون فارطة.. بلى.. كفانا الله شر الوباء والبلاء. وعلى رأس هذه الأوبئة التي عرفتها البشرية في أزمنة خلت: (الطاعون).. وما أدراك ما الطاعون، الذي فاق كل وباء، حتى أن الشاعر (ابن الوردي ت 1349م) عناه بعد أن عاناه فقال: (فَمَنْ أحَسَّ بَلْعَ دَمْ.. ف أَحَسَّ بالعَدَمْ)..! وقبل أن يموت هذا الشاعر بهذا الوباء اللعين في حلب؛ قال وكأنه يعيد الإصابة بالوباء إلى خطايا البشر:
قالوا فساد الهواء يُردي
فقلت يُردي هوى الفساد
كم سيِّئاتٍ وكم خطايا
نادى عليكم بها المنادي
ثم يقول؛ وكأنه يبدي عدم اكتراثه بالطاعون الذي أودى به:
ولستُ أخاف طاعوناً كغيري
فما هو غير إحدى الحسنيينِ
فإن متُّ، استرحتُ من الأعادي
وإن عشتُ، اشتفتْ أذني وعيني
* ظهر الطاعون في أوروبا في منتصف القرن الثامن الهجري، وأفنى ثلثي سكان هذه القارة، وثلثي سكان مصر، فسمي (الوباء الأسود). يقول الشاعر (بترارك ت 1374م) عن وباء الطاعون في هذه الفترة العصيبة: (إن الأجيال المقبلة؛ لن تصدق أن ما حدث لنا قد يحدث فعلاً). سبحان الله.. وآن لنا أن نقول القول نفسه: (لن تصدق الأجيال القادمة؛ ما فعل كورونا بنا). والعالم الإسلامي في تلك الفترة؛ عانى من هذا الوباء كثيرًا، ذلك أنَّ العصر المملوكي (1250-1517م) يعدُّ أكثر العصور التي اُبتلِي فيها العرب بالطَّاعون، حيثُ امتدَّ من مصر إلى الشَّام، وقد شمل قارتي آسيا وأوروبا بين سنتي 1338 و1351م، وسمي بطاعون الموت الأسود، كما سمَّوه بالفصل الكبير، وبسنة الفناء، وقد قضى فيه مئة مليون شخص نحبَهم عبر العالم. ولقد عبَّر عن هذا الشاعر بدر الدين حسن بن حبيب الحلبي (1310-1377م)، بقوله:
إن هذا الطاعون يفتك في العالم
فتك امرىءٍ ظلوم حسود
ويطوف البلاد شرقًا وغربًا
ويسوق الخلوق نحو اللحود
* وما هو الطاعون الذي بدأنا به الكلام هنا..؟ تُعرِّف وزارة الصحة السعودية هذا المرض الخبيث فتقول: (عدوى بكتيرية خطيرة ومعدية؛ يمكن أن تؤدي إلى الوفاة. يحدث بسبب بكتيريا حيوانية المصدر، توجد عادة في بعض القوارض مثل: الفئران والثدييات الصغيرة وبراغيثها. يصاب البشر بعد عضهم بواسطة برغوث يحمل بكتيريا الطاعون، أو عن طريق التعامل مع حيوان مصاب به. يوجد علاج فعال له بمجرد تشخيصه بشكل مبكر، وذلك بالمضادات الحيوية. لا يوجد لقاح لمنعه؛ لكن هناك إرشادات يجب اتباعها). ما هذا..؟! فئران وبراغيث وثدييات..؟! إذن نحن نعيش مع طاعون عصري جديد اسمه (كورونا)..! خاصة والأعراض تكاد تكون واحدة وهي: (ارتفاع درجة حرارة الجسم. القشعريرة. آلام في الرأس والجسم. الغثيان والقيء. السعال مع بلغم دموي. صعوبة في التنفس). ما الفرق يا ترى؛ والفأر يلعب على حبالنا الضعيفة من أقصى الصين إلى أدغال أميركا اللاتينية..؟!
* كيف تبدو مشاعر الناس وهم يشاهدون آلاف الجثث تدفن دون تشييع ولا وداع يليق بها..؟ هذا الشاعر.. (الصَّاحب شرف الدِّين 1190 – 1264م)، تخيل نفسه جثة بين جثث ترمى وتدفن في خندق واحد، وهو يكره أن يموت بالطَّاعون، فليس فيه كما يصف همَّة المحارب، ولا فيه ما يكون للمرء به شرف الموت، فيقول:
وإِنِ اخْتُرِمْتُ فمِيتَةٌ أَرْضَى بها
إِذْ لم أُصادِفْ عيشَةً تُرْضيني
وإِذا رأَيتُ المَرْء غيرَ مُخلَّدٍ
فالطَّعْنُ أَشْرَفُ لي مِنَ الطّاعونِ
جَبُنَتْ عن المجدِ المُؤَثَّلِ هِمَّتي
إِنْ لم أُلاقِ خُطوبَهُ بِجَبيني
* وهذه صورة أخرى يرسمها في المعنى ذاته الأديب: (جمال الدين إبراهيم المعمار ت 1349م). يقول:
قُبّح الطاعون داء
فقدت فيه الأحبة
بِيعت الأنفس فيه
كل إنسان بحبه
* وكثيرًا ما شبه المؤرخون وباء الطاعون بالطوفان، لأنه حالق ماحق، يقضي على كل شيء. الطُّوفان يعني نهاية العالم البشري الأولى. وخوف الإنسان من نهاية ثانية كهذه وارد في أدبياتهم، فهي صورة ترمز إلى إرادة إلهيَّةٍ لمحو الخراب الدُّنيوي الذي اعتاد البشر على الاحتفال به في سلوكياتهم اليوميَّة. هذه قصيدة لابن الوردي، يجسد فيها صورة الخوف من الفناء، حيث يقضي الطُّوفان بتعديل الموازين، وإعادة الحقوق. يقول:
فهذا يُوصِّي بأولادِهِ
وهذا يُودِّعُ جيرانَهُ
وهذا يُهيِّئُ أشغالَهُ
وهذا يُجهِّزُ أكفانَهُ
وهذا يُصالحُ أعداءَهُ
وهذا يُلاطف إخوانَهُ
وهذا يُوسِّعُ إنفاقَهُ
وهذا يُخالِلُ مَنْ خانَهُ
وهذا يَحبِّسُ أملاكَهُ
وهذا يُحرِّرُ غِلْمانَهُ
وهذا يُغيِّرُ أخلاقَهُ
وهذا يُعيِّر ميزانَهُ
ألا إنَّ هذا الوبا قَدْ سَبا
وَقَدْ كانَ يُرسلُ طوفانَهُ
فلا عاصمَ اليومَ من أمره
سوى رحمةِ اللهِ سبحانَهُ
- القصيدة تعكس ولا شك؛ تصورًا مرعبًا عن حالة هستيرية تجتاح البشر في أزمنة عصيبة كأزمنة الأوبئة التي ظهرت وتتكرر اليوم مع كورونا.. طاعون العصر؛ إلا أن هذا يقود إلى التفكير في مشكل كبير يتعلق بالنظام الاجتماعي والبناء النفسي للإنسان، مع ما جد واستجد من اختراعات وتقنيات ومستحدثات من صنع الإنسان نفسه، فيها ما يفيد وفيها ما يضر، وكل ذلك لا يخلو من رمزية لنهاية البشر.