أصابتْني ضَائقةٌ شديدةٌ وَهَمٌّ لا يعلمُ بِه إلا اللهُ وحدَه، وأخذتُ أُقلِّبُ طَرْفاً حَسِيراً تدورُ به الأوهامُ والخطَراتُ، لا يَهتَدِي إلى رَبْوةٍ ذاتِ قرارٍ مكينٍ، وفي غَمْرةِ هذه الآلامِ المعنويةِ التي يَتحَشْرجُ بها الصْدرُ وتئِنُ منها الرُّوحُ، قلتُ ما الحلُّ ياربِّ؟ وقد سُدَّتِ المسالكُ، وأُوصِدتِ الأبوابُ غيرَ بابِك! وكنتُ قبلها أَدْلُفُ إلى سِفْرٍ من أسفارِ ابنِ القيَّم وهو "الوابلِ الصيِّبِ ورافعِ الكَلِمِ الطيِّبِ" فوجدتُني تلك الساعة أنثني عليه علَّه يُخفِّفُ جراح الرُّوحِ الثَّكْلَى، فما إنْ بَدأتُ به حتّى هَدئتِ النائرةُ وانقشعَ البلاءُ المحيط {أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ}.الرعد: ٢٨
في هذه اللَّمحةِ الخاطفةِ يقولُ ابنُ قيِّمِ الجوزيَّة وهو من العارفين بالله وأهلِ السُّلوكِ، يَصفُ كلماتِ الحقِّ جَلَّ في عُلاه: "وكيفَ تَفنى كَلِماتُه جَلَّ جلالُه وهي لا بدايةَ لها و لا نهاية؟! والمخلوق له بدايةٌ ونهايةٌ، فهو أحقُّ بالفناءِ والنَّفادِ، وكيف يُفني المخلوقُ غيرَ المخلوق؟!"(١).
و في إلْمَاحةٍ أُخرى يذكرُ رحمَه الله في تفسير قوله تعالى: {إنَّ الله يُدافِع عن الذين آمنوا}. يقول: "فَدَفْعُه ودفَاعُه عنهم بحسبِ قوةِ إيمانِهم وكمالِه، ومادَّةُ الإيمان وقوَّتُه بذكر الله تعالى، فمن كان أكملَ إيماناً، وأكثرَ ذكراً كان دَفْعُ الله عنه ودفاعه أعظم".(٢)
ولو فرَّ الإنسانُ من شيءٍ في الدنيا وكان الفِرارُ جديراً به، لفرَّ من النِّفاق، وذلك أنَّ من أَظْهَرِ صفاتِ المنافقينَ أنَّهم لا يذكرونَ اللهَ إلا قليلاً، فكفى به والله زريَّة ومَعرَّة أن يجمع المسلمَ تراخيه عن ذكر ربِّه مع المنافقين، الذين مردوا على النِّفاق وتلطَّخوا في رَدْغَةِ الخيانة، وارتضَخُوا مع أهلِ الكفرِ سلعةَ البوارِ، جاء عن النبي ﷺ كما في "سنن أبي داود" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما مِنْ قومٍ يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مِثلِ جيفةِ حمار، وكان عليهم حسرة"، وأيُّ حسرةٍ في يوم الحسرة، حينما يعدُّ الإنسانُ كم من الأوقاتِ ضيَّع بل كم عصى الله! فلا حول و لا قوة إلا بالله
اللهمَّ إنَّا ضِعافاً فتولَّنا برحمتك.
يعيش الذاكرُ مع الذكر هدوءاً وراحةَ بالٍ لا يجِدُها مَنْ شغلتْه الأحاديثُ الجوفاء، والأغلوطاتُ المتناثرة، والجعجعةُ الفارغةُ، التي صمّت الأسماعَ ودوَّختِ الرؤوسَ من دون أنْ تبنيَ نظريةً علميةً أو تشرحَ قانوناً علميّاً واحداً، بل زادت من المأساة في المجتمع المُسلِم وَوَسَّعتِ الخَرْقَ على الراقِعِ!
قدْ هيَّؤوك لأمرٍ لو فَطِنتَ لَهُ
فاربأ بنفسِكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
وفي قصة مَسِيرِ النبيِّ ﷺ وإشارتِه إلى جبلِ جُمدان الكائنُ
في مُحافظة خليص والذي يبعدُ عن مكة مائة (كيلو متر)
كما جاء في الحديث المروي في (صحيح مسلم): كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، يَسِيرُ في طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ علَى جَبَلٍ يُقَالُ له جُمْدَانُ، فَقالَ: سِيرُوا هذا جُمْدَانُ سَبَقَ المُفَرِّدُونَ قالوا: وَما المُفَرِّدُونَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ.
فالسبقُ على قَدْرِ اللَّهَجِ بالذِّكْر؛ فإنْ غُلِبنا على العباداتِ التي تتطلبُ جُهداً بدنياً فلا نُغلبُ على العبادةِ اللفظيةِ،
ومن الفضل الإلهي علينا أَنَّنا نستطيعُ فِعْلَها على كُلِّ حال
وفي كل زمان، فلا يكون للشيطان نصيبٌ مِنَّا حتى في اللِّسانِ، وأجد أنَّ العلمانيةَ اليوم تُبْكِمُ الأفواهَ فكأنَّها من فَرْطِ إخلادِها إلى المادةِ لا ترى في ما لا يُحسَبُ بمعايير الاقتصاد، أو يُجرَّب في المختبرات العِلمية أو يُلمس جدوى! فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون إذا حمل هذا الدَّاءَ مَنْ لا يعرِفُ أنَّه الموت الزؤام، والماحقُ المُهلِكُ.
————-
(١) الوابل الصيِّب، ابن القيم، دار عالم الفوائد، ط١، ١٤٢٥هـ
(٢) نفس المرجع، ص ١٧٣