كُلّمَا صَرفتُ النَّظرَ عن شِراءِ كتَابٍ على رَفٍّ من الرفوفِ، احتجتُ إليه بعدَ ذلك وتقطّعتُ حسرةً على أنَّني لم أحظَ به، وكانتْ عليَّ هذه حتى أشتريَه مرةً أخرى، آخرها كتاب معاوية بن أبي سُفيان للعقاد، لطالما كنتُ أراه على الرفوف في المكتبات وأتساءلُ ماذا سيضيفُ لي لو قرأتُه وأنا الذي قرأتُ عن معاويةَ بنِ أبي سفيانَ في كتب التاريخ والأدب والحديث، وتبيَّن لي أنَّني واهم، وهذا على قاعدة "النّاس أعداء ما جَهِلوا" وإلَّا ما الذي يضيرُني لو أخذتُه واستشفيتُ برأي أديبٍ يُشرِّحُ الشخصياتِ التاريخيةَ بِمبضع الجرَّاحِ، ويغوصُ في أغوار النَّفس الإنسانية بمفتاح الشخصية -ليتسلل إلى كُنْه اللاوعي الذي يُشكِّل الإدراك-إن أصابَ أو جانبَ الصواب، ولكنْ أعودُ فأقولُ قاتلَ اللهُ الجهلَ فهو عدوُّ البشريةِ الأوّل، هذا وأنا أظنُّ نفسي في نادي القُرَّاء، فكيف لو كنتُ خارج الحلْقة بتسكين اللام كما هو تقييدُ شيخنا عمر فرُّوخ، وهذا دليل على أنَّ كثرة الكتب المتكدِّسة عند أربابِها وعُشَّاقِها لا يزيد الباحث عن الحقيقة إلَّا قدرة معرفية تجعلُ المعلومة سهلةً قريبة المأخذ.
المعرفة حاضرة بين صفحات الكتب، مطويةٌ بين أطوائِها لا تنجلي إلَّا لنقَّارٍ لا يفتأُ عن البحث والتنقير، ولا يهدأُ له بالٌ حتَّى يراها رأي المعاينةِ فليس الخَبَرُ كالخُبْر، ومَنْ صعَّر خدَّه عن الانكباب، كبَّه الجهلُ لليدينِ وللفمِ،
فهذا يدخل في باب عظيم يتهدَّى فيه أولوا البصائر، ينالون فيه منزلة وراثة الأنبياء إن صدقت النِّية، وصلُح الحال.
يُذكر عن أبي عمرو بن العلاء إمام النحو والقراءات: أنّ الكتب في منزله، كانت تصلُ إلى السقف، و قال الصفدي في "أعيان العصر" عن ابن القيِّم رحمه الله: "ما جمع أحدٌ من الكتب ما جمع؛ لأنّ عمرَه أنفقه في تحصيل ذلك، و كان عِنده مِن كل شيءٍ في غير ما فنٍّ و لا مذهبٍ بكلِّ كِتابٍ نُسخٌ عديدة"(١).
والذي يرى هذا النِّتاج لابن القيم، يُدرك البُعد الموسوعي في مصنَّفاته فلا يأخذُه العجبُ إذا كانت مكتبةُ ابنِ القيمِ عامرةً بالمؤلفاتِ التي تتزاحمُ وتتراكمُ في جَنَبَاتِها.
إنَّ الاستزادة لا تُحمدُ إذا كانت على حسابِ القراءةِ، حتى لا تدخل في التَّكاثر المذموم، أمَّا إذا اعتدلت كفتا الميزان
فَنِعِمَّا هي ولا تزيدُ صاحبَها إلَّا خيراً.
وانفساحُ الخياراتِ أمامَ النَّاظرِ مُغرٍ بالاستفاضةِ والابتكار في البحث، وهل يكون هذا مع شُحِّ المصادر والمراجع الورقية؟ كلَّا إنَّه لايكون، وأقول الورقيَّة لأنَّ هناك انجذاباً روحيّاً لها يعرفُه إلَّا مَنْ ألِفَ الكتابَ الورقيَّ واتَّخذه له خَدناً وصاحِباً، ولا تزهيدَ في الكتاب الإلكتروني والصوتي فكلاهما مِنْ الوسائل المناسبة، التي تفي بالمطلوب.
سالم صعيكر البلوي
——————
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، المجلد الأول، ابن القيم، دار عالم الفوائد، ١٤٢٥هـ