التفاعل الحضاري بين الأمم سنةٌ كونيةٌ، فلا يمكن أن تتطور الحياة إلا بهذا التفاعل، فالحضارات تتجاذب، وتبقى الأمة الناجحة هي التي توزان بين خصائصها الذاتية وبين مطلبي الثبات والتغيير والأخذ والعطاء في المعترك الحضاري. لقد كان المنطلق الذي انبثقت منه الحضارة الإسلامية منطلقاً إيمانياً قادراً على بناء الإنسانية، وجذب الأمم. ولأن أكثر ما جذب الأمم المحيطة بالدولة الإسلامية هو احترام المسلمين لخصوصية الطرف الآخر؛ سواء الدينية أو الاجتماعية، ولم تفرض على أحدهم أحكامها وأساليب الحياة فيها، مما أسهم في إيجاد أجواء المثاقفة بين الشعوب التي احتكت بالدولة الإسلامية، وذلك بدوره زاد من دافعية التفاعل الحضاري بين تلك الأمم. إنَّ المثاقفة التي قامت عليها هذه الحضارة مثاقفة ائتلاف لا اختلاف؛ لذا كان الانصهار الثقافي يحمل طابعاً مميزاً مختلف عن باقي الحضارات.
لقد أسس الإسلام منهجاً متكاملاً للتعامل بين الشعوب والحضارات المختلفة، فقد أقر باختلاف الناس والأجناس، وربط المسلمين مع سائر البشر على اختلاف أجناسهم وانتماءاتهم الحضارية برباط من الأخوة الإنسانية النابعة من وحدة الأصل البشري ، وألزم المسلمين بالتعاون والتعايش والتعارف مع غيرهم, وإشاعة الخير مع الجميع وبين الجميع بغض النظر عن الأصل والدين واللون , قال تعالى:]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[، فقد اعترف الإسلام بواقع الديانات السابقة ؛ اليهودية والنصرانية ، ولم يمنع من التعاملات العامة بينها وبين أصحاب تلك الديانات ، وقد أرسى مبدأ حرية الاعتقاد حيث قال تعالى :] لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[، وكان ذلك أساساً التعايش الإنساني .
وكانت نتيجة تلك الأسس إثارة التفاعل الحضاري بين الأمم، وكان من شأنه: نشر المثاقفة الحضارية بين الأمم في العصر الوسيط. فعندما توسعت قاعدة المجتمع العربي وأخذت أبعاداً واسعةً من الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً، كان من الطبيعي أن تتصل بالأمم الأخرى كنتيجة طبيعية لهذه الفتوحات؛ فتزاوج الفكر العربي والذوق الغربي بأذواق وأفكار بلغت شأواً بعيداً من التقدم والحضارة، فنتج عن هذا بواكير حضارة راقية أخذت شكلها النهائي، وآتت أكلها في العصر العباسي أولا ًوبلاد الأندلس فيما بعد.
وقد تعددت صور التفاعل الحضاري بين الشعوب، وكانت الترجمة، والتنافس العلمي من أجمل صور ذلك التفاعل، والأولى كانت مقدمة للتالية؛ إذ يقول مرحبا: " جاءت حركة الترجمة والنقل نتيجة وثمرة للتفاعل الحضاري بين الشعوب المختلفة، وهي نتيجة طبيعية لسنة التطور الاجتماعي الحاصل من تفاعلات الحضارات، فقد استطاعت حركة الترجمة أن توفر للعرب والمسلمين ما توفر لدى الأمم الأخرى من علوم وآداب وفلسفات، فتحت لهم آفاقاً جديدة من المعرفة، ووضعت أسساً لحضارة جديدة ". وكانت نتائج ذلك التفاعل إيجابية على الأمم؛ فقد أثرت مجال التبادل الثقافي بين الأمم، وانصهر العالم في قالب حضاري يقوده العالم الإسلامي.
ففي تلك الفينة كانت الحضارة العربية هي الحضارة المتألقة أساساً؛ إذ كانت ذات مستوى عال من التقدم والمدنية، وكانت اللغة العربية حينذاك لغة العلم والمعرفة، ولغة التعامل بين الدولة الإسلامية وسكان البلدان المفتوحة، وغدت لسان الحضارة في كافة أرجاء الدولة الإسلامية وخارجها، وكانت حركة الترجمة الصورة العاكسة لهذا التفاعل.
وكان العرب ولغتهم القوة التي أشعلت بارود التفاعل الحضاري بين الأمم عن طريق حركة النقل والترجمة التي اجتاحت العالم في العصور الوسطى ، وبلغت أوج عظمتها في القرن 4ه/10م. وبهذا عم تبادل ثقافي كبير بين تلك الحضارات ، فتجاوز العرب تأثيرهم اللغوي على الأمم المجاورة إلى الابتكـــار ، والتجديد، والتعديل، والإضافة، وطرق أبواب البحث العلمي، فبدأ انتشار المراكز العلمية في بلدان : ( الأندلس – قنسرين - جند يسابور – الرها – وغيرها )، وغدا تاريخ تلك الفترة مفعماً بالحيوية والنشاط ، وبدأ التفاعل الحضاري بين الأمم بشكل لم يسبق له مثيل، وكان من أثر ذلك ظهور حركة علمية من نوع آخر، فأصبحت الأنظار كلها تتجه إلى تلك البقعة التي تنبعث منها رائحة المسك ، فترى إقبال أهل الذمة على تعلم العربية وفنونها، وقد دعت الحاجة إلى تمهيد السبل أمام هؤلاء الأعاجم لامتلاك ناحية الدقائق المعنوية في العربية، والتضلع في متنها الزاهر بالمفردات والتعابير، وكانت المراكز العلمية المنتشرة على امتداد الرقعة الإسلامية، أفضل وسيلة لتعلم هؤلاء اللغة العربية وعلومها ؛ فانبعث من ذلك تنافسٌ علميٌ منقطع النظير في مختلف العلوم والآداب، فأصبح العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه حلقةً علميةً تعرض فيها ألوان المعارف والثقافات .
ومن ثم ظهرت الفترة الثانية الناتجة عن ذلك التفاعل الحضاري ؛ ألا وهي : التنافس العلمي، فزخرت أرض الدولة الإسلامية بالعديد من العلماء الجهابذة ؛ أمثال : الجاحظ (ت163ه)، وجابر بن حيان (199ه) ، والخوارزمي (235ه) , والزهراوي (404ه)، وابن سيناء (427ه)، وابن الهيثم (430ه) ، وغيرهم من العلماء الذين وصلت شهرتهم عنان السماء ، ويعد أولئك فلاسفة العرب والمسلمين الذين قال عنهم لوبون : " إنَّ فلاسفة العرب والمسلمين هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدِّين " . ويؤكد سارتون ذلك بقوله : "المسلمون عباقرة القرون الوسطى ، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية تتمثل في أنهم تولوا كتابة أعظم المؤلفات والدِّراسات العلمية ،وأكثرها أصالةً وعمقاً مستمدين في ذلك لغتهم العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري في الفترة الواقعة بين منتصف القرن الثامن الميلادي حتى نهاية القرن الحادي عشر، لدرجة أنه كان يتحتم على الشخص الذي كان يريد الإلمام بثقافة عصره وبأحدث ما يجري من علوم أن يتعلم اللغة العربية ".فحريٌّ بلغة الفكر والحضارة الريادة والسيادة في كل العصور.
بقلم : د. نوف بندر البنيان
أستاذ التاريخ المشارك – كلية الآداب والفنون –جامعة حائل