المرابطون هم الذين نشأ من بينِهم القائدُ العظيمُ يوسفُ بنُ تاشفين، قائد معركة الزلّاقة التي انتصر فيها المسلمون على جيوش ألفونسو السادس ملك قشتالة وليون، في الثاني عشر من شهر رجب عام ٤٧٩هـ، وكتب الله فيها النّصرَ المُؤزَّرَ للمسلمينَ، ويقولُ المؤرِّخونَ أنّ هذه الموقِعةَ الشهيرةَ؛ أخّرتْ سقوطَ الأندلسِ أربعةَ قرون.
وبين (درب الزلّاقة)و (درب الزلق)، مزالقُ تزِلُّ بها أقدامٌ، وتطيشُ لها عقولٌ، وتنطوي هذه المُفارقةُ اللفظيةُ الزمانيةُ، على نشيجِ صدورٍ تغلي مراجلُها مِن هولِ ما تشعرُ به، وبين صدورٍ قهقهاتها تتعالى على خيباتِ دربِها المنحدِر المُنزلِق.
ولِنعودَ لقصةِ المرابطينَ وكيف تبلورتْ هذه الفِكرةُ التي بدأتْ بشكلٍ يسيرٍ ثم توالتْ بعد ذلك الأفكارُ و تلاقحتِ الفُهومُ، وانتجتْ وطابَ نِتاجُها، بفضلِ جهودِ الرجالِ الذين كان الإخلاصُ -والله أعلم- يُنيرُ بصائِرَهم، ويُشعِلُ قرائِحهم، أمَّا المؤسِّسُ فهو يحيى بنُ إبراهيم الجَدالي رئيسُ قبائلِ صنهاجةَ الصحراءِ، حَرَّكتْهُ مسؤوليتُه الاجتماعيةُ عندما رأى الجهلَ ينخرُ أبناءَ قومِه، وفكّر ما الحلُ في ظلِ هذا الانحدارِ الدينيِّ والسقوطِ الأخلاقيِّ، وعَزَمَ المسيرَ إلى الحجِّ فأناب ابنَه، يحيى بنَ إبراهيم
ريثما يعود، فقضى مناسكَ الحجِّ، وفي طريقِ عودتِه ذهب إلى القيروان، وعرّج على شيخِ المذهبِ المالكيِّ هناك أبي عمران الفاسي، وحضر مجالسَ دروسِه ويُذكر أنّه لفتَ انتباه الشيخ لالتزامه الحضور ومحاولتِه الاستفادة، فدعاه الفاسيُّ وسأله من أيِّ الديارَ هو؟ ومن أي القبائل؟
فأخبره أنّه من جدالة، وقال أنّهم بحاجة إلى مَن يُعلِّمهم القرآن ويُفقِّههم أمورَ دينِهم، فما كان من الشيخ إلا أن يُرسلَه إلى أحدِ طلبتِه، واجاج بن زلو الملطي، الذي هو بدوره أرسل معه عبدالله بن ياسين الجزولي، الذي على يديه بدأ تشكيل الرباط، وعندما قدِم عليهم احتفلوا به واستبشروا وأخذ يُعلِّمُهم القرآنَ، واستطاع أن ينتخِب سبعين فقيها منهم، يكون عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، فما كان منهم إلا أن ضجُّوا من إنكارِه مفاسِدَهم، وأخرجوه بالقوةِ ونهبوا بيتَ المالِ فخرج خائفاً يترقّب، وقيلت في هذا عِدة روايات، ولكنّ الذي تمّ بعد ذلك أنَّه غيّر موقعه وذهب إلى جزيرةٍ عند مصبِّ نهر السنغال باستشارة أحد زعماء القبائل، ثم قام ابنُ ياسين بعمل رِباط في تلك الجزيرة النائية يعبدُ اللهَ هو ومَنْ معه من أتباعِه، حتى سمع النّاسُ بهم فتوافدوا إليهم، يقول الدكتور حامد خليفة: "فأخذ يُقرِئُهم القرآن ويستميلُهم إلى الخير، ويُرَغِّبُهم في ثواب الله، ويحذِّرهم من عذابه الأليم، حتّى تمكّن حبُّه من قلوبِهم فأطاعوه، لما رأوا فيه من خصال الخير والزهدِ في حطام الدُّنيا، والتَّفاني لِنصرة الإسلام من خلال تربية جيلٍ مؤمن بالله مُتَفهِّم لما له وما عليه"(١)
حتى اجتمع له ألف رجل، فعلمهم فروض الوضوء، وسنن الإسلام، وصاغهم صياغةً إيمانيه، وهذّبهم، وبناهم بناءً فكرياً سليماً، ثم صالَ بهم وجال في قبائل صنهاجة.
عادتْ هذه الجموعُ إلى قومِها مُنذرةً ومُحذِّرة، بعد أن رشفت من معين العلم رشفات، وهذا يُعيدُنا إلى أهميةِ العلم الشرعي وحتى العلوم الأخرى، في تصحيح المسار إذا انحرف؛ لأيِّ سببٍ من الأسباب، وهذه دعوة لأولئك اليائيسين من حال المجتمع، ليعلم هؤلاءِ أنه متى ما كانت النية صادقة؛ فالعودة محتومة رغم كيد المتربِّصين