في كتاباتِ عبدِالوهابِ المسيريِّ يتبدَّى عمقُ الفهمِ للحضارةِ الغربيةِ، فقارئُ المسيريِّ سيبدأُ مسيرةً من الفهمِ المتجاوزِ للسَّطحِ؛ لِيصِلَ إِلى الجذورِ والعمق، وإدراكِ آلياتِ الصراعِ الفكريِّ المتمخِّضِ عَنْ مفاهيمِ الحضارةِ الماديةِ، إنَّني وأنا أتجوَّلُ في نِتاجِ المسيريِّ بدءاً من سيرتِه_(رحلتي الفكريةُ، في البذورِ والجذورِ والثمرِ) التي ليستْ تدويناتٍ عن حياته وسيرتِه الذاتيةِ فحسب؛ ولكنَّها مشروعٌ فكريٌّ وسلسلةٌ تعريفيةٌ بنتاجِهِ الحافلِ بالابتكاراتِ المعرفيةِ عن النماذجِ والتفسيراتِ الهائلةِ لمعنى الحضارةِ والمركزيةِ الغربيةِ الصارخةِ في وجه الثقافةِ الإسلاميةِ_وقُلتُ بدءاً من سيرته حتى كتبِه الأخرى التي ما إنْ تَتَعرَّفَ عَلى أحدِها حتى يُخيَّل إليك أنَّك أصبحتَ خَبِيراً في المنظوماتِ المعرفيةِ والنماذجِ الإدراكيةِ وأبعادِ التشكيلِ الاستعماريِّ الغربيِّ، ولا يظُنُ ظانٌّ أنَّني أَسعى إلى سَوْقِ هذه العباراتِ من أجلِ التفخيمِ الأجوفِ لهذه السياقاتِ! كلَّا، فالأمرُ ظاهرٌ ومتجلٍ على سماحةِ أُسْلوبِه لأنَّ من يتجشمْ عناء القراءاتِ الفكريةِ يَجِدْ أنَّ المسيريَّ مختلفٌ عنْ كلِّ تلك القراءاتِ الفكريةِ الأُخْرَى التي تُخاطِبُ النُّخَبَ الفكريةَ-ولا أُعَمِمُ-، وذلك لوصولِه إلى القارئِ العاديِّ بيسرٍ بدونِ أن يتخلى عَنْ مُصْطلحاتِ النَّقْدِ والسجالاتِ الفكرية وبدون أن يخرِمَ شَيئْاً مِنْهَا، فأدواته مَعَه لا يتركُ مِنْها أداةً إلا وأتى بِها.
يَذْكرُ في تعريفِه للنَّمُوذجِ المعرفيِّ أَنَّه: "صورةٌ عقليةٌ للعالم تُشَكِّلُ ما يمكنُ تَسميَتُه "خريطةٌ معرفيةٌ" ينظرُ الإنسانُ من خِلالِها للواقعِ"
وتُسَمَّى هذه النماذجُ كما يقولُ المسيريُّ "نماذجَ إدراكيةٍ" لأنَّ الإنسانَ يُدْرِكُ الواقعَ مِنْ خِلالِها.
ويشيرُ من جانبٍ آخر إلى تسميتِها "نماذجَ معرفيةٍ"
أي أنّها عادةً ما تَحتوي على بُعْدٍ معرِفي (كُليٍّ و نهائيٍّ)
إذاً فهذه النّماذِجُ هي تَأتي من المحيطِ والبيئةِ والإعلامِ والتكوينِ الثقافيِّ عن قصدٍ أو عن غيرِ قصدٍ للناظرِ من سُجُفِها، لذلك فالأمرُ من الأهميةِ بمكان! كيف لا وفيه تحديدُ مصيرِ الإنسانِ إمَّا لرضوانِ الله أو إِلى غَضَبِه لأنّ العلمَ الغربيَّ الحديثَ لم يتركْ ظاهرةً من الظواهرِ الإنسانيةِ إلا وأَخضعَها لنماذجِه الماديةِ التحليليةِ، التي تعتمدُ الواحديةَ والتجانسَ والبساطةَ، في حينِ أنَّ الظواهرَ الإنسانيةَ تركيبيةٌ ومعقَّدةٌ وغيرُ متجانِسةٍ ولا يمكنُ تفسيرُها بتلك الإحصاءاتِ الكميةِ ولا بأي حالٍ من الأحوال، فمثلا تفسير التقدُّم الغربي يستند إلى منطلقات محددة هي بالضرورة التي تقيس التقدم والرجعية من المنظور الغربي المادي المُرشَّد الاستهلاكي الذي يعتمد على
الصراع كمقولة نهائية وعلى النظرة للإنسان
كمادي/طبيعي.
لقد ذكر المسيري في إحدى المقابلات التلفزيونية معه أنَّه عادة لا يستدل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية في مؤلَّفاته ومحاضراته والدراسات التي يقومُ بها حول المفاهيم العَلمانية، وما ذاك تنكُّراً منه لها؛ ولكنّه يريد أن ينطلِقَ من الإنسانِ كأرضيَّةٍ مشتركةٍ مع الماديين والبُنيويين.
وفي هذا، لدى نماذجِ المسيريِّ، مقدرةٌ تفسيريةٌ عاليةٌ، في تقييم المصطلحات العَلمانية الجزئيةِ منها والشاملةِ، ولتلك النماذجِ وضوحٌ في صقلِ العباراتِ بحيث تكون مواتيةً لفهمِ القارئِ وتُطْلِعُه على حقيقةِ الرؤية العلمانية الشاملة المناقضة تماماً للمطلقاتِ الأخلاقيةِ التي تَتَّسِمُ بها الرؤيةُ الإيمانيةُ المُتجاوِزةُ أي: المؤمنةُ بعالمِ الغيبِ الذي امتدحَ اللهُ به المؤمنينَ في سورةِ البقرةِ وجعَله من أخصِّ خصائِصهم، وتنسابُ شروحاتُ المسيريِّ في مدى تركيبيةِ الإنسانِ وتعقيدِه وأنَّ الترشيدَ والتنميطَ وفصلَ القيمِ بهذه الحدِّيَّةِ مناقضٌ حتى للنَّزْعةِ الإنسانيةِ(humanism) التي هي من صميمِ الموروثِ الغربيِّ، فنحنُ أمامَ اختزالٍ للبُعدِ الإنسانيِّ فضلاً عن الدينيِّ الذي هو في أوليّاتِ الإخفاءِ والقسْرِ والإبعادِ من جانبِ المنظومةِ العَلمانيةِ الشاملةِ.
يُشِيرُ المسيريُّ إلى أنَّ التمركزَ حولَ المادةِ غلبَ التَّمركُز حولَ الإنسانِ الذي تنادي به الاشتراكيةُ العلمية( الماركسية) باسم الحتميةِ التاريخيةِ والجدلِ الديالكتيكيِّ وأنَّ الطبقةَ العاملةَ سوفَ تتمكنُ من إعادةِ الأمورِ إلى نِصابها الحقيقيِّ وإذا بها في النّهايةِ تصبحُ منضويةً تحتَ الرؤيةِ الماديةِ الكامنةِ والعدميةِ التي تُفسِّرُ كلَّ شيءٍ بمنطقِ الداروينيةِ والنسبيةِ، وتلتقي الرأسماليةُ والاشتراكيةُ في بُنيةٍ معرفيةٍ واحدةٍ ذاتِ مرجعيةٍ نهائيةٍ في خندقٍ واحدٍ، ويصبحُ لا معنى لتلك الأُطُرِ التي كانتْ فاصلةً بينهما لأنّها ذابتْ مع مرور الأيام وكرور الليالي.
وفي ظلِ هذه التناقضاتِ الفكريةِ التي تتماوجُ في سلك الثقافةِ الغربيةِ ومُخلَّفاتِها وتنعكسُ على مجالاتِ الحياةِ بشكلٍ يكادُ يكونُ قهريَّاً وشاملاً مع تغوُّلٍ كاسحٍ للأنشطةِ الإعلاميةِ وقطاعاتِ اللَّذْةِ التي تُصدِّرُ الهامشيةَ والسلوكَ المتناغِمَ مع الانفصالِ عنْ كلِّ القيمِ والمبادئِ يجدُرُ بنا كمسلمينَ أن نتَلمّسَ طريقَنا بهدوءٍ نابعٍ من قيَمِنا وتراثِنا الإسلاميِّ حتى لا تزِلَّ قدمٌ بعد ثبوتِها ونكون من النادمين ولاتَ ساعةَ مندمِ.
ويذهبُ عبدُالوهاب للجانبِ الأدبيِّ الذي سقطَ في وحل الإسقاطاتِ الماديةِ وما يُسمَّى بالحداثةِ وما بعد الحداثة التفكيكية أي تفكيكية جاك دريدا التي هي تفكيك للنصوص الأدبية وقراءتِها بشكل مثيرٍ وغيرِ واقعي، ينسحبُ حتَّى على النُّصوص المقدَّسة والعياذ بالله! ومن المؤسِفِ أن جوقةً من الأدباءِ العربِ ذهبوا يهرِفونَ من الوضاعةِ الغربيةِ ظانينَ أنَّهم قد وصلوا إلى الإبداعِ الفنيِّ وهم ليسوا إلّا حاملينَ لداءٍ عُضالٍ أضنى بِمن صنعوه فكيف بمن حملوه وهو غريبٌ عن تربتِهم وبيئتِهم.
ولابُدَّ مِنْ القولِ بالقِسْطِ حَتى لا تُبْخسَ الحضارةُ الماديةُ حَقَّها فِي مِنْجزاتِها فقدْ قدّمتْ للإنسانيةِ منجزاتٍ لا يُستهانُ بها من حيث التِّقنيةِ والنُّظُمِ الإداريةِ وبعضِ الجوانبِ الفنيةِ والهندسيةِ، والطبِّية التي إذا دُقِّقَ النَّظَرُ فيها ماهي إلا تراكمٌ للمعرفةِ البشريَّةِ عَبْرَ القرونِ، تلاقتْ فيه جهودٌ مختلفةُ المشارِبِ.