في مطالعاتِي لذكرياتِ الأديبِ الأريبِ علي الطنطاويِّ، خَرَجْتُ بإلمامةٍ يسيرةٍ عن دورِه في التعليم، والقضاء، والفتوى، والدعوة وغيرها من مجالات الحياة، وأخذتُ أُقلِّبُ صفحاتِ حياتِه في التعليم وكيف كان التعليمُ يملِكُ عليه شغافَ قلبِه، يؤدِّيه بأمانةٍ وحُبٍّ وإخلاصٍ وتفانٍ- يَنْدُرُ وجودُه إلا عِندَ من علِم أن العاقبةَ للمتقينَ وللمخلصينَ-، لا تَثْنِيهِ الصِّعابُ ولا تُبَرِّحُ به المخاوفُ ماضٍ على الطريقِ ولسانُ حالِه:
كيف الطريقُ إلى سُعادَ ودونَها
قُللُ الجِبالِ ودونهنَّ حُتُوفُ
الرِّجلُ حافيةٌ وما ليَ مركبٌ
والكفُّ صِفرٌ والطريقُ مَخُوفُ
لكنّ كفَّه لم تَكُن صِفْراً، بل كانتِ المعرفةُ زادَهُ، وهو الذي طوَّف في كتبِ الأدبِ القديمِ ودواوينِ الشِّعْرِ ومخَضَها فأنتجتْ مَنهجاً تميلُ لطربِه الأسماعُ وتنتشي لسمره النفوسُ، وجَالَ في مشيخاتِ السُّننِ والأسانيدِ ، فانثالتْ أساليبُ البيان على لسانِه انثيالاً أَلَانَ عويصاتِ المسائلِ الدراسيةِ الجافةِ لِتُصبِحَ نَبْعاً رقراقاً يصدُرُ عنه الصادرون، وهُمْ في تَمَامِ الرِّيِّ، قد امتلأوا بعبقِ الماضي، ودروسِ التاريخ، ومعاني الفضيلة، وقد وكزوا الرذيلةَ مخلِّفينها وراءَهُمْ ظِهرياً، إنَّ المربيَ إذا تلفَّعَ بعباءة التربيةِ الإسلامية القائمةِ على المبادئ والقيم التي لاتبور ، أماطَ عن مسالك السالكينَ أشواكَ المجترئين، وفي فورةِ الحماس ووقدةِ الشباب، كانت للطنطاوي قِصةٌ حافلةٌ بالمعاني السَّنِيَّةِ، وذلك أنَّه عندما عُيِّنَ في بلدةِ رنكوس في ريفِ دمشق والتي دوَّنها في ذكرياته، أَسوقُها هنا كما هي في أصلِها المكتوب في الذِّكريات بشيءٍ من الاختصار، وذلك أنّه عِندما نُقلَ إلى قريةِ رنكوس وكان هذا في قلب الشتاء، يقول: حزمتُ حقيبتي وركبتُ إلى صيدنايا.
وعندما بلغتُها وقفتْ السيارةُ فيها، قلتُ: ولكنِّي أُريدُ الوصولَ إلى رنكوس، قالوا: مستحيلٌ. قُلتُ: ولِمَ؟ قالوا: الطريقُ مقطوعٌ، قدْ سدَّتْه الثلوجُ. قلتُ: لصاحبِ السيارةِ أدفعُ لكَ ماتريدُ فأَوْصِلْني، قال: ماعِندنا ركَّابٌ، فهل تدفعُ أجْرَ المقاعدِ كلِّها؟ قلتُ: نعم قالوا وإنْ لم نستطعِ الاستمرارَ في السيرِ؟ قلتُ: وإنْ لم تستطيعوا فعودوا والأُجرةُ لكم وسرنا وسط الثلوج في طريق جبلي خطير، فلما بلغنا نصفه أو أكثر قليلاً، لم يعُد بالإمكان أن تتقدم السيارة ذراعاً واحداً، فقلتُ عودوا وأنا أمشي.
ثم يصف الطنطاوي كيف سارَ لمدةِ ساعتين ونصف
في جوٍّ شديدِ البرودة، حتى فاجأ أهل بلدةِ رنكوس بوصولِه، فنظروا إليه مشدوهين! حتى أخبرهمْ أنَّه المعلمُ القادمُ عليهم، والذي دعاه إلى كلِّ هذا ليس المالَ ولا الجاهَ ولكنَّه الولع بتأدية رسالة المعرفة والنور، هكذا فلتكُن وليكنُ كلُّ من مشى على هذا الدربِ، دربِ الأنبياء الهداةِ المُرسلينْ الذين لم يُورِّثوا دِرهماً ولا ديناراً، ولا قصراً ولا عقاراً، جاء عن الصادق المصدوق في الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نُورَثُ، ما تركنا فهو صدقة" (رواه البخاري ومسلم).
لا شغفَ يعدِلُ أداءَ رسالةِ العلمِ، ولذلكَ طلبُ العلمِ إذا أخلصَ فيه طالبُه وكان لوجه الله كان هذا غايةَ الغاياتِ، ومنتهى النهاياتِ.