الدموع متنفس الإنسان عند الكبت أو في لحظات الانهيار، وفي المواقف المحزنة وعند مواجهة صفعات الحياة الصعبة، وعند التعبير عن الحزن، وغالبًا ما تنهمر الدموع عندما نواري الثرى من لا نقوى على رحيلهم.
دموعنا تلك القطرات التي نستنزفها في المواقف الأشد ألمًا، فمن الطبيعي أن نبكي في منعطفات الحياة المؤلمة، ونتوسد البكاء حينما نفارق من لا نقوى فراقهم، نجهش بالبكاء عند كل ذكرى ظننَا أنها اندثرت مع مرور الأيام، نبكي في الحزن تارة، وفي الفرح تارةً أخرى.
فيبكي الطفل في لحظاته الأولى عند الولادة وكأنه يريد أن يقول: إنها مراسم إستقبال الحياة، ونبكي عند فاجعة الموت بأحدهم، فيقيم الدموع مراسمًا للعزاء.
ويرتبط البكاء كثيرًا بالمرأة لكونا أكثر عاطفة من الرجل، وكون المرأة ذات إحساس مرهف فهي لا تستطيع مداراة دموعها أو إخفاء حزنها، أو حتى منع تدفق دموعها في كل لحظة معبرة أو مؤثرة، فانعقد رباط البكاء بالمرأة ولم يعاب عليها الدموع، بل أصبح الدموع والمرأة ثنائيان مشتركان بكل المشاعر وبكل الأحاسيس المرتبطة بمفهوم البكاء.
فحواء بكل بساطتها وتعقيدها لا تتوانى جهدًا في ترجمة مشاعرها بدموعها ولا ترى فيه ما يعيبها، أو ما ينقص من جمالها، بل على العكس تمامًا فحواء جميلة أكثر عندما تبكي.
ولكن متى يبكي الرجل؟
لطالما حير هذا السؤال الكثيرين، وأصبح مجال النقاش في أكثر من موضع، وتزاحمت الآراء في كيفية بكاء الرجل، فالغريب أن أغلب الآراء توجهت إلى أنه لا يجب أن يبكي الرجل، أو أن بكاء الرجل يعتبر ضعفًا، وأحيانًا يكون انكسارًا.
أليس الرجل كائن بشري حي؟ لديه من المشاعر والأحاسيس ما يجعله إنسانًا مرهف الحس، يذرف دموعه عند الفقد، ويعتصر عند الألم، ويبكي في الحزن، ويتلوى عند المعاناة، ويصرخ لحظة الغضب.
الرجل مهما كان قويًا لديه من المشاعر ما يجعله يتأثر بأوجاع الحياة، ويجعله يمضي متقلبًا في منعطفاتها، يبحث عن الراحة والسعادة، ولكن في مجتمعاتنا العربية يسود المفهوم العام أن "البكاء ليس من شيم الرجال"، أو "بكاء الرجل عيب" وعلى الرجل أن يكون شديدًا وقويًا وجافًا ولا يبكي مهما كانت المواقف التي تهز مشاعره، ومهما كانت الظروف التي تعبث بعواطفه، وعليه أن يتحلى بالصبر والحكمة والجلادة حيال تلك المشاعر، فلا يذرف دموعه أمام أحد، وعليه أن يتوحد مع ذاته حين ينغمس في أحزانه، حتى لا يرى دموعه الناس، فيستصغرونه أو يستضعفونه.
وكثير من الدراسات النفسية أكدت أن عدم بكاء الرجال وكبتهم لمشاعرهم يعود إلى الموروثات القديمة بما يتعلق بالعادات والتقاليد والأعراف، بالإضافة إلى التربية منذ الصغر الذي يغرس في نفس الطفل منذ نعومة أظافره أن البكاء ليس للرجال، فيتربى على ذلك المفهوم، وتنمو وتكبر معه فيصبح الرجل غير قادر على التعبير أو على نفث ما بداخله من مشاعر سلبية وإخراجها، فتتراكم تلك المشاعر وتتولد لديه القسوة والجفاء، وينغمس في الشدة ويصبح كتلة ضخمة من كثير من الأحاسيس لا يعرف لها متنفسًا أو يجد لها مخرجًا، وتلك المشاعر والأحاسيس قد تطغى على جوانب كثيرة من حياة الرجل، وتؤثر سلبًا على نفسيته وقد تطال جوانب من حياته مع أسرته، أو قد يتعرض لكم كبير من الأمراض الجسدية والنفسية.
معظم الرجال لا يبكون أمام الآخرين لأنهم يعتبرون ذلك ضعفًا أو انكسارًا، ويرون أن ثقافة "عيب الرجل يبكي" معناه أن يكون الرجل مدركًا لمشاق الحياة وابتلاءاتها وصراعاتها وأقدارها، وأن يكون قويًا متماسكًا تجاه كل ما قد يضعفه، حتى يكون قدوة أمام الآخرين وأمام عائلته، ويستطيع بذلك أن يكون قويًا أمام المصاعب، وأمام صفعات الحياة، كما يقال "فبكت جميع حواسه وجوارحه إلا عينيه".
ويرى الرجل أنه متفرد بالقوة الأمر الذي يجعله يحمل على عاتقه كثيرًا من المكابدات التي تحرمه لذة التعبير عن مشاعره الكامنة في داخله، فيكبت جماحها في كل مرة تراوده دموعه في التعبير عنها، فهو يخفي دموعه خوفًا من أن يرى الآخرين حزنه فيعجز عن رؤية حزن الآخرين لحزنه، يكابد الحياة بقوة ويحارب وحده، يتعثر ثم يقف دون مساعدة، يتخطى بنفسه كل انزلاقاته وعثراته، يحمل فوق أكتافه حمل الجبال ولا يذرف دمعة واحدة لأنه يرى أن دمعته غالية يجب ألا تسقط في كل نازلة، ويجب أن يبقى صامدًا، قويًا في وجه الحياة، فيحارب الرجل دموعه كما يحارب أعاصير الحياة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق يحمل رقة كبيرة في قلبه، ورأفة ورحمة في خصالة، ويحمل مشاعرًا جياشة تفيض بالدمع، وقد رأى ذلك أصحابه رضي الله عنهم وهو يبكي في أكثر من موضع، فبكى في صلاة الكسوف خوفًا على أمته من نزول العذاب، وكان يبكي عند سماع القرآن، وبكى في موت ابنه إبراهيم، وبكى في موت أصحابه، وفي موت السيدة خديجة رضي الله عنها، وبكى في موت ابن ابنته، وبكى عليه السلام في شهداء مؤتة، وبكى في حنينه إلى أمه وشوقه لها، فلم لا يبكي الرجال؟ وخيرهم وأفضلهم خُلقًا وأكرمهم عند الله قد بكى حتى تفطر قلبه.
قد يبكوا الرجال خلسة إما لفقد عزيز أو لحظة انكسار أمام الله عز وجل، أو يبكون قهرًا من الزمان ومن تكالب الهموم، ويبكون حرقة ومرارة خاصة عندما لا يجدون حلاً لفواجع الأقدار، ولكنها لحظات قليلة وسرعان ما تزول وتنتهي؛ لأن في نظرهم أن الدموع للنساء فقط، وحديث النفس يقول: "شيء ما يدفعني إلى البكاء لكني أشفق على وسادة ما عادت تحتمل الدموع".
شكسبير كان مثالاً حيًا للرجل الذي ينكر البكاء أمام الآخرين فقال في مقولته الشهيرة: "علمتني الحياة أن أبكي في زاوية لا يراني فيها أحد، ثم أمسح دمعتي وأخرج للناس مبتسمًا"، فالمعتقدات راسخة منذ الأزل وليست نتاج لأحداث جديدة.
ويبقى السؤال الدائم: لم لا يبكي الرجل بين يدي أمه؟ أو على كتف رفيقة حياته؟ أو حتى يظهر دموعه أمام صديقه؟
لم يعيب الرجل البكاء؟ لم يداري دمعته ويكبح جماحها؟
تساؤلات عديدة لم أجد لها إجابة وافية فتركتها لكم، وخشيت أن أبدي رأيًا فأقع في خطأ جسيم لا يغفرها لي الرجال.
" يخرج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطره من شيئين: بكائه على نفسه، وثنائه على ربه" ابن القيم.
- تعليم الطائف يعتمد الدوام الشتوي للفصل الدراسي الثاني
- الفائزون بجوائز المسؤولية الاجتماعية للأندية للموسم 2023-2024.. “ماجد عبدالله” و”الهلال” في المركز الأول
- جدة تستضيف أول حدث دولي للكريكيت.. مزاد اللاعبين لبطولة الدوري الهندي الممتاز للعام 2025
- “هيئة العناية بالحرمين” تثري تجربة الطفل الروحانية بالمسجد الحرام
- نهج تعاوني.. “الصحي السعودي” يوضح المقصود بمفهوم “الصحة الواحدة”
- البنك المركزي السعودي يرخص لشركة “بوابة العملات للصرافة”
- أمين منطقة القصيم يستقبل الرئيس التنفيذي للمؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام ” إخاء”
- “الرياضة أفضل شي”.. حملة وطنية لتعزيز نمط الحياة الصحي بمشاركة مجتمعية واسعة
- “صيد واستغلال رواسب وإشعال نيران”.. ضبط 24 مخالفًا لنظام البيئة خلال أسبوع
- علاج التشوهات الخلقية.. كيف تحدّ “وثيقة الضمان الصحي” من مضاعفات الأمراض؟
- توقعات بتحركات إدارة ترامب ضد الحوثيين وإعادة تصنيفهم كمنظمة إرهابية
- “السياحة المصرية” تحذر: الحج بدون “تأشيرة مخصصة” يمنع استرداد الحقوق
- مفاضلة وتقديم ومقابلة.. “التعليم” تجيب على الأسئلة الشائعة عن برنامج “فرص” الجديد
- وداعاً للأرق.. حيلة غريبة تعيدك للنوم بعمق
- “الأرصاد” في تحديث جديد: انخفاض تدريجي في درجات الحرارة الصغرى
بقلم_ زينب انطاكي
ماذا لو بكى الرجل!
(0)(1)
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.adwaalwatan.com/articles/3431357/