مرَّ بي وأنا أقرأُ في كتابِ "شغف القراءة" لإيهاب الملاح قصةُ د.فؤاد زكريا الفيلسوف المعروف
صاحب كتاب "إسبينوزا والإسبينوزية"
وذكر فيها أولَ جائزةٍ حصلَ عليها في مقالٍ ماتعٍ
حيث أُجريتْ مسابقةٌ في الثانويةِ وكان مطلوبٌ عليه كتاباً عن تاريخِ أوروبا في النصفِ الثاني من القرنِ التاسعِ عشر الميلادي فنقِب خُفُّه وهو يبحثُ عنه فما كان من معلمِ التاريخِ إلا أن دعاه إلى مكتبتِه الخاصةِ يقول فؤادُ زكريا: "وكانت المفاجئةُ المُذهلةُ هي أن أجدَ هذه المكتبةَ الخاصةَ لمدرسِ المرحلةِ الثانويةِ هذا عبارة عن غرفة واسعة غُطِّيَتْ جميعُ جُدرانها بالرفوف التي تكدستْ عليها الكتب بالألوف"
ويُعلِّق إيهاب بعدها قائلاً: "هكذا كان معلمُ الثانويةِ في الأزمانِ الغابرةِ عالِماً يملك مكتبةً عامرةً يندُرُ أن نجدَ مثيلاً لها في بيوت أساتذة الجامعة في هذه الأيام"
ماذا أقول فمي يفتِّشُ عن فمي
والمفردات حجارةٌ وترابُ
فمآدبٌ عربيةٌ وقصائدٌ
همزيةٌ ووسائدٌ وحبابُ
هذه الرسالة التي لا ينوءُ بحملها إلا من تحمّل الأمانةَ وأدَّى الرسالة، فالحِملُ ثقيلٌ على مَنْ لم يُعِدّ العُدّة، فكيف لمن يُخاطِبُ النشء أن لا يكونَ الكتابُ خدينه وربيبه؟ فهو كالإناءِ الذي لا ماء فيه، وهذا مَثَلٌ فاستمعوا له إنّ الخطاب تظهرُ جليَّتُه على المُخاطِبِ وتُتبين عمقُ معرفته من عدمها أو ضحالتِها، فأي مكان يكون طريقُك وتكون ساحتُك، وأَخُصُّ بهذا المعلمين الذين تحمَّلوا هذه الرسالة فكيف بأحدِهم وهو الذي تمرُّ به الأيامُ وتتصرَّم بين يديه الليالي ولم يضربْ مع الكتاب موعداً ولا ألمَّ مع الأسفارِ برهةً، ثُمَّ هو بعدها قد نُزِحتْ بئرُه وقد بَرِمَ به الناشئةُ، وليس لنقصِ القادرين هنا مكان بل هو نقص الناقِصِينَ، فلا تسل بعدها عن النتيجة وردِّد قول الأول: "فَظُنَّ خَيراً وَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ"
إنّ التعليمَ ليس تلقيناً وحشْواً بقدر ماهو تقريب الجيل من الكتب وكسر حاجز الخوف من المُفردة وأذكرُ أنّي قرأتُ للشيخ علي الطنطاوي وهو يتسائل كيف يتمُّ تحفيظ الطلاب كتباً لم يحفظْها مؤلِّفوها، وهذا صحيح
بلْ هناك نماذج لمثقفين فشلوا في مضمار السَّباق الأكاديمي، ونجحوا في مضمار السِّباق الثقافي وصارتْ بينهم وبين السوق الثقافي أُلْفة ومحبة، وهذا ليس إلا إنَّ النفس أُطلِقتْ من عقالها، وتنفستْ حريتها، فباتتْ تعرف الطريق وتتبين الصُّوى على الدروب
أَيا جَبَلي نُعمانَ بِاللهِ خَلِّيا
نَسيمَ الصَّبا يَخلُص إلَيَّ نَسيمُها
فإذا كان هذا والحال هذه، فلا أَدَلَّ على مانحن فيه من التعليم التقليدي عند السواري والذي كان يملك فيه الطالب حرية التنقل بين الدورس فمن درس بلاغة إلى درس نحو إلى تفسير إلى درس لغة إلى غيره من فنون العلم المتنوعة وكأن الخيار كان مفتوحاً أمام المُتلقِّي لينهل من أي الموارد عُذوبة على لسانه ثُمَّ يختار بعده ما يُلائم استعداده النفسي.
التعليقات 1
1 pings
أحمد البلوي
30/01/2021 في 1:05 م[3] رابط التعليق
مبدع دائماً
(0)
(1)