قال لي أحد أصدقائي: كنت ذات مساء؛ صحبة أصدقاء، نؤدي واجب العزاء في صديق لنا توفاه الله. انبرى أحد أصدقائنا متحدثًا في الجمع الحاضر، ذاكرًا محاسن الفقيد وسجاياه ومزاياه، حتى كاد يبكينا عليه أكثر. شكرناه على موقفه النبيل، وروحه الفياضة، وكرمه بهذا المدح الذي نعرف أن صديقنا الفقيد يستحقه وأكثر، إلا أن أحد أفراد أسرة الميت؛ صرخ في وجه صديقنا المحسن بذكر محاسن الميت وقال: عجبًا والله منك يا فلان. أنت صديق للمرحوم كما تقول؛ وكان يعتبرك أخاً له، ولكنك كنت في حياته تغتابه، وتذكره في مجالسك بكل سوء، ولا تدع منقصة إلا وألصقتها به، والشهود على ما أقول كثرة. هل ما قلت اليوم هو تكفير عن ذنوبك في حقه..؟ أم نفاق..؟ أم ماذا تسميه..؟ يضيف محدثي قائلًا: الحقيقة.. تكهرب الجو، وارتفعت أصوات بين الحضور، وانسحب صاحبنا المادح في هدوء.
بعد سماع هذه الرواية؛ مكثت عدة أيام وأنا أتساءل: ماذا لو أن مديح صاحبهم وثناءه على صديقه؛ كان له في حياته قبل مماته..؟ ولا بأس أن يُمدح الميت بما هو أهل له، كما يستحق الحي الثناء بما يستحق في حياته قبل موته..؟ لماذا نتجاهل منجزات الحي وحسناته وأعماله التي تستحق الثناء في حياته؛ ثم إذا مات وفاضت روحه إلى بارئها؛ تسابقنا إلى ذكر هذه المحاسن، كنوع من تكريم الميت..؟ أو كأننا نعزي أنفسنا عن تقصيرنا، ونكفِّر عن أخطائنا تجاهه في حياته..؟ أو نجمل ذواتنا في غيابه..؟ ألا يستحق الأحياء التبجيل والتكريم والتقدير وهم أحياء..؟ حتى يفرحوا ويشعروا بالسعادة، فيذهبوا إلى قبورهم وهم ممتنون شاكرون لمن حفر لهم ودفنهم تحت التراب..؟! يُقال في الأمثال: (بعد ما راح المقبرة؛ حطوا على رأسه سُكّرة)، وفي هذا القول؛ تبسيط شعبي لطيف خفيف لمقولتنا الشهيرة: (اذكروا محاسن موتاكم). لا بأس من ذكر محاسن ومحامد الموتى، ولكن لِمَ لا نرفقها بمقولة حيّة تقول: (اذكروا محاسن أحيائكم). ذلك أن مدح الحي؛ مدعاة لنشر الفضائل، وإكثار للمحاسن. يقول الشاعر:
رب مدحٍ أذاع في الناس فضلًا
وأتاهم بقدوة ومثال
وثناء على فتى عم قومًا
قيمة العقد حسن بعض اللآلى
يسعى الكثير من البارزين من الناس في حياتهم؛ إلى محاولة تخليد ذكراهم بين الوسط الذي يعيشون فيه. يكتبون سيرة ذاتية مثلًا، أو يتركون عملًا بناءً يحمل أسماءهم، ذلك أنهم يعرفون أن الناس مثل ما يتجاهلونهم وينكرون عليهم الجميل في حياتهم؛ سوف ينسونهم بعد الممات، حتى لو ذرفوا عليهم الدموع لأيام، وكتبوا المراثي في فقدهم، وتنادوا لتكريم موتاهم وهم في غياهب القبور. قد ننسى أن مدح الحي لا يكلّف شيئًا. المدح ليس أكثر من ذكر الصّفات الحسنة للشّخص، والثّناء عليها، والتّغنيّ بها وبصاحبها، ووصفها بشكل محبّب ودقيق، وتعداد كل ما يتميّز به الممدوح من صفات وأخلاق تُعتبر محطّ ثناء. المدح يزيد الإنسان الطيب طيبة، وقد يزيد الخسيس خسة، فينكشف لكل ذي عينين. قال الشاعر:
إعلان
خُذ ما تَراهُ وَدَع شَيئاً سَمِعتَ بِهِ
في طَلعَةِ الشَمسِ ما يُغنيكَ عَن زُحَلِ
يحضرني بهذه المناسبة؛ ما ورد من أن الأديب يوسف السباعي؛ أهدى كتابه (أرض النفاق) إلى نفسه..! على عكس ما هو متبع في إهداءات الروايات والكتب، من إهداءٍ إلى حبيبٍ أو قريبٍ أو عظيمٍ.. أو تزلفًا إلى مسؤول. قال السباعي في إهدائه: (إلى خير من استحق الإهداء، إلى أحب الناس إلى نفسي، وأقربهم إلى قلبي، إلى يوسف السباعي. ولو قلت غير هذا؛ لكنت شيخ المنافقين، من أرض النفاق)..! ثم نجده يعلل هذا الإهداء الذي لم يُسبق إليه في مقدمة كتابه بقوله: (إني أود أن أكرّم نفسي وهي على قيد الحياة، فلأشد ما أخشى ألا يكرّمني الناس إلا بعد الوفاة، ونحن شعب يحب الموتى، ولا يرى مزايا الأحياء حتى يستقروا في باطن الأرض. إني أريد كل شيء. أريد ما بالدنيا وأنا في الدنيا، أما الخلود؛ والذكرى؛ والتاريخ؛ فما حاجتي إليها وأنا عظام نخرة..؟ تثوى في قبر بقفرة. ما حاجتي إلى تقدير الأحياء وأنا بين الأموات؟.. ما حاجتي أن يذكروني في الدنيا وأنا في الآخرة..؟! ويمجدوني في الأرض وأنا في السماء..؟! إني أبغي المديح الآن، والتقدير الآن: وأنا أسمع وأحس. فما أمتعني شيء كسماع المديح والتقدير. قولوا عني مخلصًا وأنا بينكم: أني كاتب كبير قدير شهير، وأني عبقري، ألمعي: لوذعي، فإذا مت؛ فشيعوني بألف لعنة، واحملوا كتبي فأحرقوها فوق قبري، واكتبوا عليه: هنا يرقد أكبر حمار..! أضاع عمره في لغو وهذر)..! وكأن بالسباعي بهذا الإهداء من الذات السباعية للذات السباعية؛ يتمثَّل قول الشاعر:
ولا مدح ما لم يمدح المرء نفسه
بأفعال صدق لم تشنها الخسائس
وقول الآخر:
إذا المرء لم يمدحه حسن فعاله
فمادحه يهذي وإن كان مفصحا
ما الذي يحول بين الناس وبين تكريم الأحياء منهم قبل موتهم، ولو بمدحهم والثناء عليهم، وإطراء منجزاتهم، وتعظيم أعمالهم إن كانوا يستحقون ذلك..؟ الأديب الكبير عباس محمود العقاد؛ له رأي في هذا إذ يقول: (لقد علمتني تجارب الحياة؛ أن الناس تغيظهم المزايا التي ننفرد بها، ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا، وأنهم يكرهون منك ما يصغّرهم لا ما يصغّرك، وقد يرضيهم النقص الذي فيك، لأنه يكبرهم في رأي أنفسهم، ولكنهم يسخطون على مزاياك؛ لأنها تصغرهم، أو تغطي على مزاياهم. فبعض الذم على هذا؛ خير من بعض الثناء. لا بل الذم من هذا القبيل أخلص من كل ثناء، لأن الثناء قد يخالطه الرياء. أما هذا الذم؛ فهو ثناء يقتحم الرياء).
أخيرًا.. لا ننسى أن النفس البشرية؛ مجبولة بطبعها على الإعجاب بها، والثناء عليها. هذا في حياتها قبل أن تواجه خالقها. قال الشاعر:
يهوى الثّناء مُبرِّزٌ ومقصّر
حُب الثّناء طبيعة الإنسان