«الصُّحبة والرُّفقة في العلاقات الإنسانية؛ هي أنقى وأنصع صور الصداقة بين شخص وآخر، لأنها تعني فيما تعنيه؛ مشاعر حبية في مزامنة ومماكنة في الغالب. أي القرب أكثر. لقد أكثر الأقدمون من مفكرين وشعراء وأدباء من ذكر الصداقة وصحبة الأصحاب، وأطنبوا في الثناء على الصاحب والصديق الوفي، وقدحوا كثيرًا فيما يشوب الصداقة من نفاق وغدر وخيانة إلى درجة كبيرة. قالوا: الصديق عند الضيق، وقالوا في مواجهة لهذا: الوحدة خير من جليس السوء.
«مما سمعت وأعجبني من شعر شعبي لطيف في تصوير نفاق الصديق مع الصديق وتغطية هذا العيب بكثرة الضحك وسماجته. قالوا:
صاحبي كهكهي
وانا مثله كهكهاني
إن بغيته ما لقيته
وان بغاني ما لقاني
«أو كما قالوا:
لي صاحب كهكهاني
وانا مثله كهكهيته
إن طلبته ما عطاني
وان طلبني ما عطيته
«وهذا القول الشعبي الجميل؛ يترجم قول الشاعر العربي:
يُعطيكَ من طَرَفِ اللِّسانِ حلاوةً
ويَروغُ منكَ كما يروغُ الثّعلبُ
«الصديق في كل الدنيا؛ هو الصاحب الصادق الود. مأخوذ من الصدق، فصديقك من صدقك لا من صدّقك، ومثل هذا قليل. قال الامام الشافعي:
ما أكثر الأصحاب حين تعدهم
ولكنهم في النائبات قليل
«يجب على الإنسان أن يحسن اختيار صديقه، فالصديق الصادق موضع سره. يحفظ غيبته ويغفر زلته، ويتعامل معه على طبيعته بلا تكلف أو تزلف.. قال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل). وقال أيضاً: (المؤمن مرآة أخيه المؤمن). قال عدي بن زيد العبادي:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال المتنبي:
شر البلاد بلاد لا صديق بها
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وقال أبو فراس الحمداني:
ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني
ليست مؤاخذة الإخوان من شأني
يجني الخليل فأستحلي جنايته
حتى أدل على عفوي وإحساني
«إن كثيرًا من الشعراء قال بتسفيه وتحقير المسيئين من الأصحاب لأصحابهم، وما ينتج عن ذلك من مواقف تقطع عرى الصداقة، والإمام الشافعي سبق الكل بأن قطع وفصّل وقال:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفًا
فدعه ولا تكثر عليه التأسّفا
ففي الناس إبدال وفي التَّرك راحة
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
إذا لم يكن صفو الوِداد طبيعة
فلا خير في ود يجيء تكلّفا
ولا خير في خل يخون خليله
ويرميه من بعد المودة بالجفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها
صديق صدوق صادق الود منصفا
«ثم إنه تحضرني هذه القصة المعبرة في صحبة الأصدقاء ورفقة الأخلاء. ظل صديقان يسيران في الصحراء ليومين كاملين؛ حتى بلغ بهما العطش والتعب واليأس مبلغًا شديدًا. بعد جدال واحتداد حول أفضل الطرق للوصول إلى حيث الأمان والماء؛ إذ بأحدهما يعطي جفلًا للآخر. هذا الأخير احتقن غضبًا، لكنه لم يبدِ انفعالًا، فأخذ يكتب على الرمل: (اليوم أعز أصدقائي صفعني)..! واصلا السير إلى أن وصلا عينًا من الماء، فشربا منها حتى ارتويا، ونزلا ليسبحا. ولكن الذي تلقى الصفعة؛ لم يكن يجيد السباحة، فأوشك على الغرق، فبادر الآخر إلى إنقاذه، وبعد أن استرد الموشك على الغرق أنفاسه؛ أخذ ينقش على صخرة: (اليوم أعزّ أصدقائي أنقذ حياتي) ..! فاستغرب الأول تصرفه وسأله: لماذا عندما صفعتك كتبت ذلك على الرمل؛ وها أنت ذا الآن تكتب على الصّخر..؟ فأجابه: (عندما يجرحنا صديق؛ يجب كتابة ذلك على الرّمال، حيث تستطيع الرّياح محوه، لكن عندما يساعدنا هذا الصديق؛ فيجب علينا حفر ذلك على الصّخر؛ كي لا تستطيع أي ريح محوه). هكذا ينبغي أن نتعلم كتابة جراحنا على الرّمال، وأن نحفر سعادتنا على الصّخور.
«ومع كل ما جاء في الصداقة والصحبة ووجوب الوفاء والصدق بين الأصدقاء؛ إلا أن وجود الخلّ الوفي في حياة الناس أسطورة، فلكل إنسان حياته الخاصة التي تحكم رغباته ومشاعره. فالصديق كما قيل؛ عملة نادرة، وهو من المستحيلات. قال الشاعر صفي الدين الحلي:
لما رأيت بني الزمان وما بهم
خِلّ وفيّ للشدائد اصطفى
أيقنت أن المستحيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخلّ الوفيّ
«وإلى جانب هذه الصعوبات في اختيار الأصدقاء وانتقاء الأخلاء؛ والمحافظة على ودهم وصحبتهم؛ فإن الحذر واجب من أصحاب متلونين، وأعداء في أثواب أصدقاء. فقد ورد كثير من التحذير من مثل هؤلاء. مما جاء لأبي الفتح البستي قوله:
إذا اصطفيتَ امرأً فليكنْ
شريفَ النِّجار زكيّ الحَسَبِ
فنذل الرجالِ كنذلِ النّباتِ
فلا للثمارِ ولا للحطبِ
«وهناك شعر ينسب للخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وينسب كذلك للشاعر صالح عبد القدوس يقول:
وإِذا الصديقُ رأيتَهُ متملّقًا
فهو العدوّ وحقُّه يُتَجنّبُ
لا خيرَ في امرئٍ متملّقٍ
حلوِ اللسانِ وقلبُهُ يَتَلهّبُ
يلقاكَ يحلفُ أنه بكَ واثقٌ
وإِذا تَوارى عنك فهو العَقْرَبُ
يعطيكَ من طرفِ اللسانِ حلاوةً
ويروغُ منك كما يروغُ الثعلبُ
«ألا.. ما أكثر العقارب والثعالب التي تتنقل بيننا في أثواب من الصداقة والصحبة، وقد نسمع من يلوم ويعيب زمانها، ولكن الإمام الشافعي، دافع عن الزمان وعاتب الإنسان فقال:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
ولو نطق الزمان إذًا هجانا
وديدننا التصنع والترائي
فنحن به نخادع من يرانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضًا عيانا
لبسنا للخداع مسوح ضأن
فويل للمغير إذا أتانا
«أخيرًا.. لا صحبة مطمئنة لكهكهي، ولا صداقة دائمة لكهكهاني، فهذه حال؛ نافخ كير لا حامل مسك.