كم أتمنى والله أن يكون في العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا اليوم لا غدًا؛ (ستين مليون داهية) لا ستين فقط..!
* نكرر عادة فيما بيننا وفي حالة غضب عارمة مثلًا دارجاً يقول: (في ستين داهية).. نقصد بذلك المصيبة والبلية والأمر المنكر، من داهية دهماء دهواء دهياء، وهذا صحيح. وقليل منا من يعرف أن لمفردة (داهية)؛ وجه آخر مضاد لهذا تمامًا، ذلك أن الداهية هو الإنسان البصير بالأمور، العاقل الذي يتصرف بتخطيط ومن دون تعجل. حتى أن العرب كانت تقول: (ياما تحت السواهي دواهي)، فالساهي هو المتظاهر بالسهو والغفلة، قليل الكلام، الهادئ في مظهره، ما يوحى بتدني معنوياته، لكنه كبير في عقله وأفعاله، مخطط حاذق، يحسبه الحمقى والجهلاء ضعيف الرأي قليل العزم، وهو داهية. فالدواهي جمع داهية، وهو الإنسان البصير بالأمور، العاقل الذي يتصرف بتخطيط ومن دون تعجل. ويمثل الدهاء؛ أعلى درجات الحدس والفراسة والذكاء، فليس كل داهية قرين المكر والخداع، بل في الدهاء سرعة في التصرف، وقدرة على المناورة، وذكاء في الخروج من المآزق بالحيلة والمواجهة بأقل الخسائر، وحتى بأقل الأرباح. لنتذكر هنا أن دهاة العرب أربع: معاوية بن أبي سفيان، وزياد بن أبيه، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. فهذا معاوية يقول: (لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما قطعتها، إذا شدوها أرخيت، وإن أرخوها جذبت. (ويقول: (لم يَسُد العربُ الأوائل إلا بإيمان خالط بشاشة قلوبهم، وشجاعة مكنتهم من رقاب أعدائهم، ودهاء واجهوا به أعتى الإمبراطوريات القائمة وقتها). والأرومة العربية ولادة بمثلهم حتى اليوم.
* هؤلاء ومثلهم كثير في وقتهم، تصدوا بالدهاء للفرس، فهزموهم في ذي قار وفي القادسية، ووصلوا للروم في عقر دارهم، وأسسوا دولًا. الدهاء ليس في السياسة والحكم والحرب فقط، بل في الثقافة والإبداع والفنون أيضاً، ومن حنايا الدهاء؛ تخرج الحيلة والخدعة والمكيدة. وفي القرآن الكريم طرفًا من حيلة في قصة سيدنا يوسف - عليه السلام- مع إخوته، عندما وضع صواع الملك في رحل أخيه، وأذن مؤذن من جنود سيدنا يوسف: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}. واستفاد الرسول- صلى الله عليه وسلم- من احتيال نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب، فأفشل الله بكيده وتدبيره مسعى قريش وغطفان ويهود. فكانت الهزيمة في معركة الأحزاب بالحيلة والدهاء، وليس السيف وحده هو الذي حسم المعركة.
* وبما أن لكل مثل قصة؛ فلهذا المثل: (في ستين داهية) قصة ورواية، فالمثل يعود للصحابي: (قيس بن مكشوح المرادي) أثناء حصاره قصر فيروز الديلمي في صنعاء، وقتله للباذان الفارسي بعد معركته في الرحبة مع همدان. وكان الهمدانيون قد رتبوا مع الفرس مكيدة لقتل كبار مشايخ مدحج (مراد)، وفعلاً تم الحضور، وغُدر بمشايخ مدحج، وقُتل منهم ستون شيخًا، وكانوا من دهاة مدحج، فتفرقت قبيلة مدحج، وهام قيس بن مكشوح في جزيرة العرب، وكان فارسًا من فرسانها، حتى سمع بنبأ الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- فقدم إلى المدينة لمقابلة الرسول- عليه الصلاة والسلام- فدار بينهما حوار من ضمنه سؤال الرسول له: هل يحز بنفسك ما جرى لقومك..؟ فقال له: نعم. فأسلم قيس وعاد إلى اليمن.
* وعندما حدثت الرِّدة؛ وجراء مناوشات مع حاكم صنعاء؛ تذكر قيس بن مكشوح غدر همدان بمشايخ قومه بالتعاون مع الفرس، وسعى للانتقام والثأر لهم من الفرس وهمدان، ومع كثرة عدد القتلى من الجانب الآخر؛ جاءت الوفود الوسيطة إلى قيس بن مكشوح، معاتبين له لكثرة القتلى ومناظر الخراب والدمار، فأجابهم بهذه الكلمات القليلة: (في ستين داهية). بمعنى: كل هذه الضحايا والخراب من أجل أو ثأراً لستين داهية أو كبير من قومه. وكان قيس بن مكشوح المرادي عندما أطبق الحصار على قصر فيروز الديلمي الفارسي في صنعاء؛ أقام نقاطًا في مداخل صنعاء، وقتل كل من ينتمي إلى الفُرس أو همدان الجوف.
* قصة المثل وإن كانت تاريخية قديمة؛ إلا أن لها دلالاتها المهمة، وخاصة في زمن يتكرر فيه غزو الفرس والترك لبلاد العرب، والإيغال في إذلال العرب واستعبادهم في ديارهم وبسياط من قومهم، كما هو ظاهر في اليمن من قبل الحوثيين التابعين للفرس، وكما هو حاصل في العراق من خلال حشود شعبية وفرق تأتمر بأمر الفرس، فتقتل وتخرب وتنهب لصالح ملالي طهران، وكما هو واقع في سورية ولبنان عبر حزب الله الإرهابي، ذراع إيران في المنطقة العربية والعالم، وكما يجري في ليبيا بسلاح ومليشيات إرهابية تقودها وتديرها تركيا (قرد غان).
* أقول هذا؛ ونحن نشهد كيف يعيد التاريخ نفسه: ما أحوجنا إلى (60 مليون داهية) معاصر؛ يخرجون من العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا، بقيادة عدد من الأحرار (المكشوحين)، للتخلص من رجس الفرس والترك، الذي دنس المجتمعات العربية، وقهرها وأذلها، وجعل منها (همادنة) خونة لا عد ولا حصر لهم.
* هل يكرر عرب اليوم المصطلين بنيران الفرس والترك؛ بطولات ذي قار؛ ليخرج من بينهم (عديل بن الفرخ العجلي) المعاصر، فيقول مفتخرًا:
ما أوقد الناسُ من نار لمكرمةٍ
إلا اصطلينا وكنّا مُوقدي النار
وما يعدون من يوم سمعت به
للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة
يوم استلبنا لكسرى كل أسوار