«أي موت..؟ وأي جهل..؟ وأي جهلة هُم..؟
«ألا ما أكثرهم.. فعلى مرّ تاريخ البشرية كلها؛ وهناك من البشر من هم غير البشر. المسألة لا تقاس بأسماء الناس وأشكالهم، ولا بنسب هذا وحسب ذاك؛ ولكنها تتعلق بعقولهم وأفهامهم وأفكارهم وسلوكهم في الحياة. كم من مُضلّل ودجّال ومجنون أحيانًا؛ أغوى أمة، وضلل أمة، وقاد الناس إلى هلاكهم، حتى أن الشاعر المتنبئ فكّر وقدّر في هذه الآفة فقال:
لَهَوى النفوسِ سريرةٌ لا تُعلمُ
عرضًا نظرتُ وخِلت أني أسلمُ
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
«نتذكر جيدًا؛ يوم جاء الهالك الخميني إلى طهران محمولًا على طائرة فرنسية، ليحكم الشعب الإيراني بقداسة المرشد الأعلى، الذي يمنح صكوك الغفران لرعاياه المسبحين بحمده. لم يكتف بهذا الذلّ للشعب الإيراني؛ بل عمل على تصدير القداسة الدينية، المبنية على جهالة وتجهيل، إلى الجوار العربي والأمة الإسلامية. صدقه وآمن به وممن جاء من بعده الكثير من القطيع الجاهل.
«ظهر من بعد الخميني؛ هالك آخر هو أسامة بن لادن، وانجذب إليه قطيع آخر ظنوا أنه يملك مفاتيح الجنة، ثم ظهر بين ظهراني هذه الأمة مدّع آخر هو أبو بكر البغدادي، خليفة ضال في نفسه مضلّ لغيره، ممن تعمم بالغفالة والجهالة، فتبعه جمع غفير من سفاكي الدماء، ومستعبدي الإماء. وها هو قردوغان التركي الحالم بخلافة تركية جديدة؛ يسير على نهج المدعين المفتنين. يتدثر بفكرة إخوانية عربية الأصل، قامت على فكرة التضليل ذاتها التي تأبى أن تفارق أهلها منذ قرون وقرون. والسؤال: أين عقول البشر؛ الذين ينقادون بكل سذاجة وبساطة وسفه للمهرجين والمدعين، والذين تستعبدهم فكرة خارجة عن المعقول بالأساس..؟
«منذ فجر التاريخ وفي البشر دجاجلة ودجاج، وأدعياء وأتباع، ومضللون وقطيع هم أقرب للبقر من البشر. انظروا لهذه الحكاية من تراثنا: ذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ عن القاضي يحيى بن أكثم مخاطبًا المأمون قال: والله لقد مررت يا أمير المؤمنين منذ أيام في شارع الخلد وأنا أريد الدار فإذا إنسان قد بسط كساءه وألقى عليه أدوية وهو قائم ينادي: هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة والظلمة وضعف البصر، وإن إحدى عينيه لمطموسة والأخرى مؤلَمة، وقد تألبوا عليه واحتفلوا إليه، فنزلت عن دابتي ودخلت بين تلك الجماعة فقلت: يا هذا أرى عينيك أحوج الأعين إلى العلاج وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء..! فما بالك يا هذا لا تستعمله..؟ قال: أنا في هذا الموضع منذ عشرين سنة، ما رأيت شيخاً قط أجهل منك ولا أحمق..! قلت: وكيف ذاك..؟ قال: يا جاهل.. أتدري أين اشتكت عيني..؟ قلت: لا. قال: بمصر. فأقبل عليّ الجماعة فقالت: صدق والله، أنت جاهل، وهمّوا بي، فقلت: والله ما علمت أن عينه اشتكت بمصر..! فتخلصت منهم بهذه الحجة.
«وهذه أعجوبة أخرى.. جاء في (فوات الوفيَات) أنه جلس المهدي كعادته، فدخل عليه رجل من العامة وبيده قنديل علق به نعلًا وقال: يا أمير المؤمنين.. هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أهديتها لك. فأخذها المهدي وقبّلها ووضعها على عينيه وأعطاه عشرة آلاف درهم. فلما خرج الرجل؛ قال المهدي لجلسائه: ما ترون..؟ إني أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها ولم يلبسها، وهي ليست له، لكن لو كذبناه لقال للناس: أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله فردها عليَّ، وكان من يصدقه أكثر ممن يكذبه، إذ كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها، والنصرة للضعيف على القوي وإن كان ظالمًا، ولهذا فقد اشترينا لسانه، وقبلنا هديته، وصدقنا قوله، وكان الذي فعلناه أرجح وأنجح.
وهذه عجيبة ثالثة من عجائب الجهلة والمغفلين من بني البشر: قال أحدهم للشاعر الظريف (كلثوم بن عمرو العتابي)، فقد ظهر وهو يأكل خبزًا على الطريق أمام الناس:ويحك ياعتابي، ألا تستحي..؟ فقال: لو كنت في حظيرة؛ أكنت تستحي أن تأكل وما فيها من البقر يراك..؟ قال الأول: بالطبع لا. فقال: إذن.. انتظر حتى أريك أنهم بقر.فوقف العتابي يخطب في الناس، ويعظ، ويدعو، حتى كثر الزحام حوله، ثم قال: أيها الناس؛ روى لنا غير واحد؛ أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة.. !!فأخذ كل واحد من الحضور يخرج لسانه، ويقيسه ليراه إذا بلغ أرنبة أنفه أم لا. ولما تفرق الجمع؛ قال العتابي للرجل الذي لامه بداية: ألم أقل لك إنهم بقر..؟!
«قلت: ألم يقل علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل نحو أربعة عشر قرنًا:
وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لِأَهلِهِ
وَأَجسادُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ
وَكل امرىءٍ لَم يَحيَ بِالعِلمِ مَيِّتٌ
فَلَيسَ لَهُ حَتّى النُّشورِ نُشورُ
وقال الشاعر معروف الرصافي:
إذا ما الجهل خيّم في بلاد
رأيتَ أسودها مُسخت قرودا