حج هذا العام مختلف . فلا ازدحام ولا التحام ولا حوادث تذكر ولا احتشاد أمني كالمعتاد ، الكل متباعد عن الكل والتقارب فقط في الوجهة والملبس والمكان والزمان ، ونرجو أن لا يعود موسم الحج مرة أخرى بهذا التباعد .
الشدائد تمنحنا فرصةً للتأمل والتدبر والتفكر في أمورٍ عدة ، ولأن كورونا من الشدائد فقد منحني فرصة التأمل في أحوال قاصدي البيت العتيق دون تصريح ، خصوصاً وأنني مررت بجوار مشعر عرفة قاصداً الطائف ؛ فلمحت الوادي وقد مُلء بحشدٍ من الدوريات الأمنية تصطف بجوار بعضها كسدٍ منيع ضد أي متسلل وقد أُشعل الوادي بألوانِ التحذير المتصاعدة من أسقف الدوريات .
المتسللون إلى الحج هذا العام يرون أن الفرصة ربما تكون سانحة لهم أكثر من ذي قبل بسبب تقليص أعداد الحجيج وبالتالي وجود ثغرة انسانية يستجديها أحدهم من رجل الأمن لينفذ من خلالها إلى المشعر ، غير أن ذلك لن يحدث وعلى المتسلل أن لايرهق قدميه وجسده الملتف بالبياض في تجشُّم الطرق الوعرة والسفوح العسيرة ، فلا ثغرة عند رجل الأمن سوى ثغرة النظام .
لو استعرضنا فلسفة المتسلل وتبريراته للتسلل لوجدناها متلعثمة ، فالمتسلل يبرر تسلله بالغلاء الفاحش في أسعار الحملات ، والبعض ذهب إلى أبعد من ذلك وهو عدم مشروعية إغلاق المشاعر المقدسة أمام أي ضامر جاء ملبيًا لله ومستجيبًا للنداء الإلهي الذي صدح به أبو الأنبياء عليه السلام ، وهنا يجب أن نرد بالتالي :
أولا : الحج هو الركن الأوحد من أركان الإسلام الخمسة المشروط بالاستطاعة ، وإذا قلنا الاستطاعة فهذا يعني قدرة الحاج المادية والجسدية وغيرها والتي تمكنه من إتمام نسكه بالصورة الصحيحة دون تكلف أو تكبُّد ، ومن لم تكن لديه القدرة على دفع تكاليف الحج فهو إذن غير مستطيع لتأديته .
ثانيا : الدولة لم تؤصد أبواب المشاعر أمام الحجاج وإنما نظمت ذلك بأن منحت الفرصة كل خمس سنوات ، وهذا التنظيم الحكمة منه الحد من الافتراش الذي كان يعرقل تقديم الخدمات للحجاج ، ويعيق تنظيم الحشود بالشكل اللائق بالشعيرة وبالمملكة .
ثالثًا : الحج مرة واحدة في العمر وما سوى ذلك يعد تطوعًا لقول الحق ( ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم ) ، ومع ذلك فلكل منَّا فرصة الحج كل خمس سنوات فلِمَ المشقة إذن ؟
أداء فريضة الحج بالتسلل واقتناء الأضحية مسألتان تتشابهان ليس فقط في الزمان ولكن في منبع الفكرة ذاتها ، فالعقل الذي يفكر في اقتحام الأسوار ليؤدي ركنًا من أركان الإسلام رغم عدم استطاعته ؛ هو ذاته العقل الذي يتقاعس عن شراء أضحيته لأن ثمنها باهض ، رغم أن ذات العقل هو من يخطط ماديًا بشكل جيد لرحلة استجمام بعيدًا عن الصخب وفوضوية العرب .
إذن فالمشكلة التي نعاني منها ونسقطها على نواحي شتى من الحياة ؛ هي مشكلة ثقافية تتجسد في التبعية المطلقة لشخوص أو لأفكار أو لزمنٍ سحيق لم نشأ أن ننسلخ منه ، فهناك رجل دين في مكان ما من الدنيا افتى بعدم مشروعية تصريح الحج فاتَّبعه نفرٌ منا وأيَّده ، وتعالت أصواتهم حتى بلغت آذان المغرضين فالتقطوها ونعقوا بها في أبواقهم ، وسيظلون ينعقون بها كلما أذَّن مؤذن الحج .
إنَّ الشرف الذي حبانا الله به في خدمة ضيوفه ؛ وسام فخرٍ نطوق به أعناقنا ، بيد أن هذا الوسام إن لم ندافع عنه باقتدار فلن نستشعر شرفه كما يجب ، ومن ذلك أنَّ علينا الاستبسال في إبراز جهود دولتنا وجهودنا في تنظيم الحج وعدم الرمي بالترهات السخيفة في طريق النور ، فالحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة لآلىء من الجنان مؤتمنون عليها .