ونحن نعيش زمن جائحة (كورونا COVID-19)؛ أرانا نكتب بين حين وآخر؛ مجرد (تهميشات وتقميشات) علمية كانت أو أدبية، تواكب مقتضى حال المشكل الذي يمر به العالم أجمع؛ فما بالنا إذاً نتعدى (التهمشة والتقمشة)؛ إلى (الكَرْوَنة) اللغوية والخطابية في هذه المسألة..؟
خَلق (فيروس كورونا) لأول مرة في تاريخ البشرية؛ ثقافة جديدة، تتخطى إطارها الصحي إلى ما هو أبعد، فهي تحمل متضادتين حياتيتين غير مسبوقتين. خلق (وِحْدَة اجتماعية). وخلق (وَحْدَة أممية). الوِحدة بالكسر؛ هي العِزلة والانفراد الذي فرضته الحالة في المجتمعات، بحيث أخذ شكل الفُرقة بين الأسر، وحتى وصل الأمر إلى العِزلة داخل الأسرة الواحدة، وبرز ما يشبه الترغيب والتحبيب في بقاء الفرد الواحد -ليس فقط بين أسرة في دار واحدة- ولكن في حجرة منفصلة..! الأمر ليس مزحة ولا ملحة، فقد اكتشفت هذا بنفسي في أوساط أسرية قريبة جدًا وقلت: هذه قناعات شخصية فرضتها (ثقافة الكَرْونة الجديدة)، التي نحياها بكل تفاصيلها ساعة بساعة. قد يكون لها ما يبررها، وقد تكون مما هو مبالغ فيه ولكن؛ تظل الوِحدة التي فرضتها (ثقافة الكَرْونة)؛ واحدة من وسائل الوقاية والتحرز والتحوّط، نتيجة للخوف والهلع، وترتقي في صورة أخرى أعلى درجة؛ إلى مرتبة العلاج. لقد جاء من الأمثال الفرنسية: (عندما تدخل المصيبة بيتًا؛ ينبغي تقديم كرسي لها). وهذا ما تفعله المجتمعات والأسر حيال فيروس كورونا، وما يفعله الأفراد من بين هذه الأسر.
لكل شيء مقابل وثمن في هذا الكون؛ والوِحدة المفروضة كرهًا على المجتمعات والأسر بأمر كورونا؛ تكشف عن نعم كثيرة عظيمة وجليلة ما عُرفت حتى فُقدت. كانت الحركة الدائبة طيلة الليل والنهار نعمة. وأي نعمة هي. كان العمل والدراسة والسفر والرياضة والترفيه نعمة. الصلاة في المساجد نعمة. التنزه والتسوق نعمة. ولقاء الأصدقاء والصحبة في الأماكن العامة نعمة. أداء الواجبات الاجتماعية في الأفراح والأتراح نعمة. قائمة من النعم كانت ترفل فيها كل المجتمعات والأسر والأفراد في كل العالم. نعم كانت قبل كورونا، وزالت مع كورونا. ليس من السهل على فرد أو أسرة؛ التخلي فجأة عن عاداته اليومية ونمط سلوكه الحياتي مما هو في حكم المعتاد، ولكن للظروف أحكام. هل التعود على النعمة لدرجة الإدمان عليها مرض خطير كما يقولون؛ فنواجه اليوم هذا المرض مع وباء كورونا..؟
ما يُضاد حالة (الوِحْدة) في دوائر المجتمعات والأسر والأفراد؛ هو حالة (الوَحْدة). الوَحْدَة.. من الجمع والتوحد والاتحاد والقوة. وجاءت هذه المتضادة الحادة في هذا السياق؛ في دائرة أكبر وأوسع من تلك.. هي دائرة أممية لكافة الدول والشعوب والحكومات والمؤسسات التي تنتظم الكرة الأرضية جغرافيًا وبشريًا. فنحن نعيش في زمن الكورونا، ونحن نشهد في هذا الزمن الجديد مع كورونا؛ تأخر لغة الحرب وتقدم لغة السلام. تأخر لغة التهديد والوعيد؛ وتقدم لغة التحابب والتقارب، وتعالي صوت الطلب الإنساني الموحد؛ للتعاون وتبادل المشورة والخبرات والدعم، لتفادي جائحة كارثية كورونية تحصد مئات ملايين البشر. هي المصائب إذاً حين توحّد العالم. يقول البولونيون: (عندما تطرق المصيبة الباب، يكون الأصدقاء نيامًا). ولكن دول العالم لم تتصادق قبل كورونا، ولن تكون صديقة لبعضها بعد كورونا، وهي لم تكن نائمة قبل كورونا. كانت منشغلة بالاحترابات والخلافات والمشاحنات. المصالح والمشتركات الإنسانية الآنية وحدها؛ تلبس لبوس الصداقة الظرفية اليوم. جاء من الأمثال الفارسية قولهم: (في بيت النملة؛ تصبح قطرة الماء طوفانًا). ويقول العرب: (المصيبة مهماز الشجاعة). وهذا ما حدث مع ظهور كورونا. شعر العالم أن فيروس كورونا هو طوفان كاسح في مواجهة نملة لا تعرف كيف تتفاداه، وهو مصيبة عصيبة، أوقدت فيهم الشجاعة للمقاومة بروح الفريق الواحد الذي يسير في مصير واحد.
الكثير من الأوبئة والجوائح والحوادث في حياة البشر؛ تعد من المحن العظمى التي تفوق طاقة الإنسان، لكنها لا تخلو من منح إلهية ملهمة. من منح محنة (فيروس كورونا)؛ تغيير طريقة التفكير في المواجهات الحادة بين الدول، إلى البحث عن مشترك دولي واحد ينجي من الغرق ولو إلى حين. مصير هذا العالم واحد مشترك، فهو إذاً يتوحد ضد خطر مشترك اجتاح المجتمعات في قرابة مئتي دولة.
أخيرًا.. وفي هذه المواجهة العظيمة مع هذه الجائحة العالمية؛ ليس أمامنا إلا الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن نستعين بالصبر والصلاة، وأن نتقرب إلى الله عزّ وجلّ بخالص الدعاء. ما أجمل هذا الموقف الإنساني من الفواجع، الذي نجده في شعر الحكم بن أبي الصلت حيث يقول:
يقولون لي: صبرًا وإِني لصابرٌ
على نائباتِ الدهرِ وهي فواجعُ
سأصبرُ حتى يقضيَ الله ما قضى
وإِن أنا لم أصبرْ؛ فما أنا صانعُ..؟