بغض النظر عن أماكن عيشنا، سواء في الدول النامية أو المتقدمة، فإن الاقتصاديات المشبوهة تعيد تشكيل حياتنا الشخصية ولا تكتفي بأن تملي علينا كيف نحيا وحسب، بل وتكون سبباً في موت كثير من البشر.
ففي أمريكا ثمة قاتل جديد يحيا طليقاً بين الناس ألا وهو مرض البدانة الذي يتسبب بمقتل أكثر من 500.000 شخص سنوياً أي ما يعادل 19% من حالات الوفاة كافة في أمريكا.
ومن المثير للسخرية حقاً أن هذا الوباء الذي تعود جذوره إلى سبعينات القرن الماضي، ازدهر وانتشر في أواخر ثمانينات القرن نفسه عندما استفاقت أمريكا على مخاطر زيادة الوزن، ففي اللحظة عينها التي يقرِّر الشخص فيها أن يصبح نحيلاً يبدأ في الحقيقة باكتساب الوزن الزائد.
والعجيب أن هذا المرض (البدانة) لم يلبث ان انتقل من العالم الغربي وتجاوزه فسرعة انتشار البدانة اليوم في آسيا تفوق سرعة انتشاره في أمريكا وأوروبا.
لقد أدت محاربة الانتفاخ إلى ظهور الحميات منخفضة الدسم، فتم انتزاع الدسم من المواد الغذائية واستبداله بالكربوهيدرات التي لا يرتفع فيها عدد السعرات الحرارية وحسب، بل تنتج الدهون أيضاً. فمنذ القدم يعرف المزارعون أن الحبوب تسمِّن الحيوانات، والمبدأ نفسه ينطبق على البشر.
إن معظم الأغذية منخفضة الدسم الموجودة في المحّال التجارية مشبعة بالكربوهيدرات إلى درجة تصبح معها جرعة السعرات الحرارية الموجودة في هذه الأغذية مماثلة للأغذية العادية.
وفي وسعك عند الذهاب للتسوق في المرة المقبلة أن تقارن عدد السعرات الحرارية الموجودة في المنتجات العادية ومنزوعة الدسم من الغذاء نفسه وستُدهش للفارق الضئيل بينهما.
وللأسف يجهل كثير من المستهلكين أن المنتجات التي يتم الترويج لها على أنها منحِّفة لا تساعدهم على ذلك، بل إنها تؤدي إلى هلاكهم في بعض الحالات، فهم يشترونها واهمين أنها إكسير الشباب الدائم.
وغالباً ما تكون الإعلانات عن الأغذية منخفضة الدسم مجرد كذبة تطلقها شركات الأغذية والباعة وحتى بعض الهيئات الحكومية؛ لكونها صناعة تدر مليارات الدولارات على أصحابها.
ويكاد كل منتج نستهلكه يخفي تاريخاً أسود لا يقف عند العمالة المسترقة، بل ويتعداها إلى القرصنة وأعمال التزوير والسرقة وغسيل الأموال.
وبالرغم من أننا مستهلكون، فبالكاد نعرف الشيء القليل عن هذه الأسرار الاقتصادية الخفية حول ما نستهلكه، ذلك لأننا عالقون في شبكة سوق محكمة من الأوهام التي صنعتها الإعلانات التجارية.
فللأسف، فإن بعض المستهلكين يعيشون في عالم خيالي، حيث نعتقد بأن حياتنا في أفضل حالاتها، لأننا قادرون على دفع ثمن أشياء لم يكن يحلم آباؤنا وأجدادنا بامتلاكها. هذا وهم، فكوكبنا غارق في فوضى تجارية عارمة.
إن السوق العولمية هي أخطر مرتع للاقتصاديات المشبوهة، لأن منتجاتها تتسلل إلى الاقتصاديات التقليدية وتفسدها.
لذا فإن الاقتصاديات المشبوهة ليست استثنائية، وإنما هي قوة شريرة مستفحلة في صميم وجودنا الاجتماعي تنشب مخالبها باستمرار في المجتمعات التي نحيا فيها.
إن تجريد الحياة الحديثة من غطاء أو اثنين من الأغطية التي تكسوها، لا يكفي لكشف النقاب عن حقيقة هذه الظاهرة التي كانت دوماً جزءاً من تاريخ البشرية.
ختاماً يمكن القول لفهم طبيعة الاقتصاديات المشبوهة، لابد لنا من التعرف على أساساتها التي تشكلت جراء المعركة الأزلية بين السياسة والاقتصاد، والتي دارت رحاها الطاحنة على مر العصور.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية