إن علم الاقتصاد الجيِّد يجمع بين كونه علماً وصفياً يصوِّر الأشياء كما هي، وعلماً معيارياً يضع المؤشرات، ويرشد إلى النمط الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه الأمور. أي أن علم الاقتصاد ينبغي ألا يكتفي بصياغة توقعات مجردة وسلبية للمستقبل، بل ينبغي أيضاً أن يشكِّل أساساً للتوصل إلى برنامج تنموي فعّال ولكيفية تنفيذه.
لذا فإنَّ علم الاقتصاد لا يفسِّر فقط طريقة عمل الآليات التي تتحكم في العمليات الاقتصادية ( الانتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار والبيع والشراء وتدفق الموارد) ، والمعاملات الاجتماعية التي تجري ضمن سياق هذه العمليات، لكنه يشكِّل أيضاً أساساً لصياغة استراتيجيات فعالة للتنمية طويلة المدى وتحقيقها.
بيد أن المشكلة هي أنَّ علم الاقتصاد على عكس الفيزياء أو الطب أو الهندسة ليس علماً تجريبياً في الأساس. فلا توجد مختبرات يمكنك أن تجري فيها بعض التجارب لتتأكد من صحة فرضية اقتصادية معينة، بل عادة تعلن الفرضية أولاً، ثم لا تتبين مواءمتها للكائنات الحية في الاقتصاد والمجتمع إلا فيما بعد.
فإذا أردنا تطبيق الاقتصاد القائم على تأكيد الفرضية العلمية عملياً من خلال العمليات الاقتصادية الواقعية، فمن الضروري أن نتحرى المهارة في تنفيذه، لأن الناس ليسوا فئران تجارب.
العلم قويّ إذن، لكن في بعض الأحيان لا تكون قوته كافية لإحراز النجاح. وللأسف كثيراً ما تأتي الحقيقة العلمية في المقام الثاني. ففي بعض الأحيان تكون الغلبة لأشباه العلماء أو الجهلاء، الذين يميلون بشدة إلى التفسيرات المفرطة في البساطة، أكثر من ميلهم إلى البراهين العلمية المعقدة.
إن الفكر السياسي والاقتصادي يسلك دروباً شتى. والاكتشافات التي يتوصل إليها العلماء قد تستدعي التقدير والاستحسان، أو في أحيان أخرى تبعث على النفور والإنكار.
لنكن صرحاء، فأسوأ شيء هو الكذب في ما يطلق عليه اسم علم الاقتصاد. لأننا في زمن يتحول فيه علم الاقتصاد الآن إلى علم زائف.
أهم شيء في علم الاقتصاد هو أن دور الحقيقة والزيف أو الصدق والكذب دورٌ شديد الدقة. ولا نزال للأسف لا ندرك سوى القليل عن هذا الموضوع.
إن بعض علماء الاقتصاد يكذبون، مدفوعين بدوافع متعددة تتعلق في أكثر الأحيان بتعصب مذهبي، أو قد يكذبون مدفوعين بميولهم السياسية، او حتى لسبب أتفه من ذلك هو أنهم يتكسبون من وراء هذا الكذب.
عندما يخطئ علماء الاقتصاد العارفون فيما يقولون ويكتبون، يمكننا أن نواصل النقاش على أسس موضوعية. لكننا نواجه معضلة كبرى عندما يكون هؤلاء على علم بالحقيقة لكنهم مع ذلك يقولون ويكتبون شيئاً آخر. إذن المشكلة مشكلة أخلاقية.
يقول أحد الاقتصاديين : نصحني أحد الأصدقاء بقوله : ألِّف كتاباً ضخماً أكاديمياً بحتاً يحوي الكثير من المعادلات، بحيث لا يفهم أي شخص أي شيء. فحفظت هذه النصيحة القيمة، وقررت أن أفعل العكس؛ بألا أضمن كتابي معادلة واحدة، وأن أكتب بحيث يفهم الجميع كل شيء. ولا أدري أي الأمرين أصعب.
نعم يمكن استخدام الرياضيات في الاقتصاد، لكن استخدامها ليس حتمياً، مثلما هي الحال في الفيزياء. ويمكن استخدامها في البحث، بل ينبغي ذلك، لكن لا حاجة لفرضها على القرّاء. إذ ينبغي أن يكون الاقتصاد بسيطاً قدر الإمكان، لكن ليس أبسط من ذلك.
إن الاقتصاد يسلك مساراً وسطاً بين الخيال كما نراه في الأفلام السينمائية وبين الدقة الموجودة في العلوم البحتة. وكلما اقترب علم الاقتصاد للدقة كان ذلك أفضل، والأفضل على الإطلاق هو الجمع بين دقة الرياضيات وتشويق الأفلام السينمائية.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية