لقد درس علماء الاقتصاد الأسس التي يعتمد عليها الناس في اختيار شريك الحياة، أو تحديد حجم الأسرة وبالغ بعض الباحثين في الاهتمام بهذا الاتجاه لدرجة أن جريدة جورنال أوف بوليتيكال إكونومي نشرت مقالة ساخرة حول اقتصاديات تنظيف الأسنان، وقدّرت هذه المقالة أن الناس يقضون نصف ساعات يقظتهم بالكامل في تنظيف أسنانهم، وقد تباهى مؤلف هذه المقالة بأنه ما من نموذج اجتماعي يستطيع الوصول إلى مثل هذه النتائج الدقيقة ، ومع كل هذه التغيرات، هناك شيء واحد ثابت، ألا وهو، قوة التحفيز.
إن الجزء الأعظم من علم الاقتصاد يتلخص في جملة يسيرة، وهي أن الناس يستجيبون للتحفيز، وما دون ذلك هو تعليق على هذه الجملة.
الناس يستجيبون للتحفيز، تبدو عبارة مقبولة وسوف يقر الجميع تقريباً بصلاحيتها كمبدأ عام. وما يميز عالم الاقتصاد عن غيره هو إصراره على أخذ هذا المبدأ على محمل الجد طوال الوقت.
إن إيمان علماء الاقتصاد بالتأثير القوي للتحفيز يقدم لهم الكثير، فهم يعتمدون عليه كمرشد في المجالات المجهولة لهم. في عام 1965، نشر رالف نادر كتاباً يلفت انتباه القارئ إلى عدة أمور في تصميم السيارات تزيد خطورة القيادة عن الحد المقبول، واستجابت الحكومة الفيدرالية سريعاً بإصدار عدة تشريعات لتحقيق القيادة الآمنة، ومنها إلزام مصانع السيارات بتركيب حزام الأمان، واستخدام عجلات القيادة المتحركة ونظام الكوابح الثنائية، وزجاج الأمان الأمامي المقوى.
وقبل أن يبدأ تفعيل هذه القوانين، كان بإمكان أي عالم اقتصاد التنبؤ بإحدى النتائج المترتبة عليها، وهي زيادة عدد حوادث السيارات، والسبب في ذلك أن الخوف من الموت في حادث سيارة يمثل حافزاً قوياً للقيادة الآمنة، في حين أن القائد الذي يضع حزام الأمان لا يخشى هذا الخطر بنفس الدرجة. ولأن الناس تستجيب للتحفيز، فإن قيادتهم تصبح أقل حذراً ومن ثم يرتفع عدد الحوادث.
إن المبدأ المطبق هنا هو المبدأ ذاته الذي تنبأ باختفاء طوابير البنزين، فعندما ينخفض سعر البنزين، يزداد إقبال الناس عليه، كذلك فعندما ينخفض سعر حادث السيارة (ويقصد بذلك احتمالات الوفاة أو القيمة المتوقعة للفواتير الطبية)، تزداد نسبة وقوع حوادث السيارات.
بعد هذا الاستطراد عن التحديات التي تواجه البحث التجريبي، أعود إلى الموضوع الأساس وهو: قوة التحفيز. إن طبيعة عالم الاقتصاد أن يفسر هذه القوة، هل تقلل السيارات الموفرة للطاقة استهلاكنا من البنزين؟ ليس بالضرورة، فهذه السيارات إنما تقلل ثمن القيادة، فيختار الناس الإكثار من القيادة.
في عام 1983، قام البروفيسور إدوارد ليمر من جامعة كاليفورنيا بولاية لوس آنجيلوس، بنشر مقالة طريفة بعنوان: لنبعد الأهواء عن الاقتصاد القياسي، حذر فيها من أن التحيزات المسبقة للباحث قد تؤثر بشدة فيما يتوصل إليه من نتائج. استخدم ليمر عقوبة الإعدام كمثال .
إن التحفيز أمر له أهميته، وتحوي مؤلفات علم الاقتصاد عشرات الآلاف من الدراسات التجريبية التي ترسخ هذا الرأي، ولا توجد دراسة واحدة تجعلنا نفنده بطريقة مقنعة، وعلماء الاقتصاد دائماً يختبرون هذه المقولة في حين أنهم ربما يتمنون سراً لو يكونون أول من يثبت عدم صحتها ليجنوا لأنفسهم الشهرة بذلك، ويعملون دائماً على توسيع مجال تطبيقها.
وفيما كنا سابقاً لا نفكر إلا في استجابة المشتري لأسعار اللحوم، فقد أصبحنا الآن نفكر في استجابة سائق السيارة لحزام الأمان، واستجابة القاتل لعقوبة الإعدام.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التعليقات 1
1 pings
محمد الشيخلي
25/11/2019 في 11:06 م[3] رابط التعليق
من خلال التفكير المنضبط وبذل الجهد في ذلك يمكن ان نحقق اي هدف دنيوي وفي كافة المجالات الحياتية، فلم تصل الدنيا الى ما وصلت اليه الا من خلال التفكير و وبذل الوسع والطاقة ، فنتج عن ذلك التفكير ثمرات بعضها خدمت الانسانية والبعض انعش اقتصادا … الخ
(0)
(0)