قراءة في نتائج الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية المبكرة في تونس
في إنتخابات رئاسية شارك فيها رئيس الحكومة الحالي بما يعنيه من سطوة و تمكن و مرشح تقدمه و لأول مرة في تاريخها حركة تمثل "الإسلام السياسي" في تونس هي حركة النهضة المحسوبة على الإئتلاف الحاكم و النظام السياسي الحالي إجمالا و وزير دفاع أريد له ربما أن يكون قنطرة الجيش لحكم البلاد، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات رسميا تأهل كل من قيس سعيّد و هو أستاذ القانون الدستوري و المرشح المستقل و نبيل القروي رجل الأعمال و المرشح عن حزب قلب تونس للدورة الثانية من سباق الرئاسة
الأمر ربما غير متوقع للكثيرين، و هي نتيجة تدعو لدراسة الحالة السياسية التونسية عموما و ما يكتسيها من تعقيد دفع بالشعب إلى إنتهاج سياسة "الإنتخاب العقابي" كمظهر من مظاهر إنتقاده للأحزاب المتصدرة للساحة و غضبه من المنظومة الحاكمة التي مثلتها لخمس سنين خلت حزب حركة النهضة التونسية و حزب نداء تونس الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي و فشلت بشكل مُجمع عليه في إدارة الملفات الحارقة في البلاد فضلا عن تحقيق أهدافها و برامجها و وعودها الإنتخابية، و هنا من الجيد أن نقف على نقطة مهمة في تحليل نتائج هذه الإنتخابات في دورتها الأولى و هي من بين أهم الملاحظات كون المتأهلين للدورة الثانية ليسا من حزب النهضة ممثلا في مرشحها عبد الفتاح مورو، و لا "الوريث" لحزب نداء تونس و رئيس الحكومة يوسف الشاهد و المؤسس لحزب تحيا تونس مستحوذا على أغلب تركة الحزب الأم نداء تونس، ما يعني أن الناخبين أرادوا "في غالبيتهم" القطع مع التوافق الحاكم في البلاد !
و لنا هنا قراءة أولى تستهدف فشل مورو مرشح النهضة و الشاهد "الوريث الشرعي" لنداء تونس و رئيس الحكومة الحالي في وصول أي منها إلى الدور الثاني، فبعد أن كانت حركة النهضة تفاخر برصيدها الإنتخابي الإستراتيجي و تمن على الرئيس السابق المنصف المرزوقي إيصاله للدور الثاني منافسا للباجي قايد السبسي في رئاسيات 2014 عبر أصوات قواعدها الشعبية ثبت جليّا أن قيمتها الإنتخابية الحقيقية هو ما تحصلت عليه في هذه الإنتخابات حيث أن مرشحها هو إبن الحركة و الرجل الثاني فيها و بالتالي فالأصوات التي تحصل عليها هي أساسا أصوات المنتمين للحركة و المؤدلجين بإيديولوجيتها، و هو ما يقرأ أيضا من منظور آخر أن الهالة التي تخمرتها الحركة في كونها الممثل السياسي الوحيد لهوية الشعب و عمقه الديني و أن إنتخابها هو السبيل لصد اليسار الإستئصالي من محاربة الشعب في دينه و هويته قد تهشمت، و ليست نتائجها في 2011 تشريعيات 2014 سوى نتاجا عن إنتخاب تعاطفي مدفوع بالغضب على النظام السابق قبل أن تنخرط فيه و تكون السبيل إلى إعادة رسكلته في النظام السياسي الحالي،
الحال بالنسبة لفشل رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد مختلفة شيئا ما، حيث أنه و رغم كونه الأطول مدة في رئاسة الحكومة و مع سعيه المتواصل لتبني نجاحات جزئية كانت في أغلبها نجاحات وهمية و محاولة نسبتها له و حتى بإعتباره متزعما لحزب ناشئ منبثق عن بقايا حزب نداء تونس إلا أنه كان في ذيل القائمة و متأخرا عن مترشحين مغمورين، تقرأ وضعية الشاهد من زاوية مقاطعته من قبل القاعدة الإنتخابية الشعبية لحزب نداء تونس "النظري" لكونهم يرونه من ناحية قد إنقلب على الحزب و ساهم في إنقسامه و إندثاره منذ أن إنشق نواب من الكتلة النيابية لنداء تونس و أعلنوا إصطفافهم وراءه ليكونوا بزعامته لاحقا حزبا منفصلا و هو الذي ما كان ليُنتخب من غيرها هذا أولا، و ثانيا لأن التفرعات و الإنشقاقات التي نتجت عن إنفراط عقد الحزب الذي جمعهم به الراحل قايد السبسي و هو حزب نداء تونس ساهمت بشكل طبيعي إلى تعدد المترشحين و حصر التنافس بينهم في المغالبة على إفتكاك أصوات القاعدة الإنتخابية للحزب الأم و هو ما أفشلهم و أذهب ريحهم
أما القراءة الأخرى، فتتعلق أساسا بشخوص المترشحَين للدورة الثانية كون الأول و إن كان شخصية مرموقة أكاديميا و محبوبة شعبيا بإعتباره أستاذ القانون الدستوري ذي التحليلات و التعليقات التي يأخذها الرأي الشعبي العام بالإستساغة و القبول إلا أنه يفتقر لحزب مهيكل ينظم حملته الإنتخابية أو كتلة نيابية ساهمت في تأمين التزكيات النيابية لترشحه أصلا ما جعل "بدائية" حملته الإنتخابية و ضعف تمويلها و بساطته من حيث الطرح و التواصل مع الناخبين نقطة قوة صبغت شخصيته كرجل شعبي و متواضع ينحدر من الطبقة المتوسطة بقيمة مضافة عززت حظوظه، كما أن من الملاحظ أن غالبية منتخبي سعيّد و حسب إحصائيات الهيئة هم من المثقفين و خريجي الجامعات ما يعني أن الرجل أنتخب أساسا لقيمته العلمية أولا و لنظافة يده من شبهات الفساد أو التلون الحزبي الذي إنتحله جل السياسيين الآخرين ثانيا
على النقيض تماما نجد أن المتأهل الثاني و هو نبيل القروي لا يتمتع بما تميز به الأستاذ سعيّد من مكانة علمية و لا بنظافة اليد و براءة الذمة، فالرجل إبتداءً يقبع في السجن على ذمة تحقيقات حول شبهات فساد و تهرب ضريبي تلاحقه تعاضدت الأدلة على تورطه فيها عبر قناته الإعلامية التي إستعملها على خلاف القانون للدعاية السياسية و للترويج لخدمات جمعيته الخيرية التي أُتهمت هي الأخرى بالمتاجرة بأوجاع الفقراء و خصاصتهم، لكن السر وراء تصدره و الذي كان نتاجا لتصويت الفئات المهمشة ذات المستوى التعليمي المتدني دائما حسب إحصائيات هيئة الإنتخابات، هو إنتهاجه نهجا دعائيا يقوم على مخالطة البسطاء و الإنصات لمطالبهم و "إستغلال" صغير الحوادث و الأمور و جليلها لتحريك حملات خيرية و قوافل للمساعدات العينية، فهذا و إن كان إصطيادا في الماء العكر أو إستغلالا للمساعدات في حشد الدعم الشعبي فهو درس في طريقة إقناع الناس و كسب ثقتهم غاب عن أغلب السياسيين المتصدرين الذي يخاطبون القوم من على شرفات قصورهم و يحاولون إستقطاب الناخبين ضمن صراعاتهم الخاصة التي لا تغير حالهم و لا تلبي مطالبهم في شيء، فهنا يمكن القول أن القروي قد عرف من أين تؤكل الكتف و أن الفئات المهمشة و الخارجة من حسابات السياسيين لا تجدر مخاطبتهم بغير اللغة التي يفهمونها و التي يرونها علاجا لآلامهم
و بشكل عام، فإن السياسة في تونس تشهد تغيرات جذرية تندثر معها العقلية الحزبية التقليدية و تنمو في خضمها رؤية شعبية تؤيد الشخصيات السياسية المستقلة و المتصدرة عبر خطابها الملامس بشكل صريح لمشاكل القوم و البعيد عن المواربة و التمويه الذي تراه القيادات الحزبية دبلوماسية و ضرورة سياسية، و بنمو هذه الظاهرة فإننا سنرى تغيرا في نتائج الإنتخابات التشريعية القريبة أيضا قد تتصدر من خلالها القائمات المستقلة و التي إنضوت تحتها شخصيات شبابية و مستقلة تسوق لنفسها طريقة مختلفة في ممارسة السياسة .
عبد الفتاح بن عطية
كاتب صحفي