سامر المزي | sameralmezy20@
تأخذ جزءا من أظافرك؛ لتكون يدك أجمل، وتقطع المطابع أطراف الكتب؛ لتصبح جذابة صالحة للقراءة والكتابة، ويقصُّ البستاني أشجار الحديقة؛ لتبدو أكثر رونقا وبهجة، ويعدل الممنتج في مقطعه؛ ليخرج فيلما رائعا وجميلا، ويخسر الإنسان أشياء كثيرة ويعطي كل ما يملك؛ ليدخل في دوامة السعادة، وينقص من وقت أوقفه لغيره؛ ليكتب الله له ذلك عُلُوًّا في الآخرة، فليس كل نقص ثلمة، بل قد يكون إضافة، فاجعل هذه الإضافة معنى لحياتك وحياة غيرك لتترك أثرا بعد الرحيل ..
السعادة نعمة ميز الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات التي بالرغم من أشكالها الجميلة، أو روائحها الزكية، أو ألوانها الزاهية، فلا يمكن أن توصف هذه الأشياء بأنها سعيدة إن لم يكن لها قلب، بل السعادة تكمن بما يملكه الشخص وبما يعطي ويقدم ويبذل ويضحي، لا المادة المختزنة بالبنوك، أو المنصب العالي في المكاتب والدور، فاعتقادهم الباطل أدى إلى تعاستهم، ولذلك السعادة لها معنى وشعور خاص بالإنسان، لا يخالطه شيء، فأسعد الناس أنفعهم للناس، والعطاء قمة السعادة، لأنه يضيء شمعة الآخرين رغم محاولتهم لإطفاءها، وينوّر ظلمتهم رغم مثابرتهم لتلك العتمة، فالاستمتاع به جمال ووعي للفكر الإنساني وبخاصة إذا كان دون الشعور بالتعب والكلل والتمنن والتفاخر وغير ذلك، وهو باب يحمل في طياته جميع المعاني الإنسانية العميقة، ولا يتلذذ بذلك الجمال والإحساس إلا لمن عاش تلك اللحظة، وجرب تلك الخصلة ..
أقول لكم : نعم؛ هناك أرواح كالريشة تطير في الهواء وتذهب حيث يوجد العطاء دون شعور، كأنها خلقت لحب ذلك، فهي لا تنتظر حافزًا لتعطي، ولا تنتظر مقابلاً لكي تقدم، فالبعض تعصف بهم عواصف الهموم والحاجة، لكنهم ما زالوا في تلك المقدمة، يعطون ما يمتلكون برضًا تام، ووجه سمح ومبتسم، يظهرون في أحلك الظروف وأشدها، ولا ينتظرون متى وكيف ! فمجرد الشعور به ينثرون ربيعهم في أجزاء الأرض، ويؤمنون برغبة عميقة دون النظر إلى الوقت ..
المعطي يحمل بداخله سلاح الحب والاحترام والاهتمام، ولا يهمه المال أو المكانة أو القدرة، ولا يتقيد بطقوس معينة، أو بشعارات زمنية، أو فئات معينة، بل هو مجرد من كل شيء، فالله تعالى أعطى كل شيء لخلقه وتولى أمرهم ورزقهم من خيري الدنيا والآخرة، وقد قال عن موسى - عليه السلام - وهو يصف عطاء الربوبية :﴿ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾، وقال أيضا:﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ﴾، فالله كريم بعطائه، عظيم بجوده، والاستشعار بهذه المعاني القرآنية هو جزء من كينونة الإنسان السامي ..
قليلون أولئك الذين يتلونون بهذا العطاء، ونادرون أولئك الذين يكون العطاء أحد متعهم الخاصة، فقد قال الشاعر:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا
بالطوب يُرمَى فيُلقِي أطيب الثمر
ليس من المهم أن تنتظر جزاءًا أو شكورًا ممن أحسنت إليهم حتى وإن قابلوك بالإساءة، فلأن تثمر في بستانهم بأجمل ما تملك، وأن تغير لهم الماء العكر بماء عذب، وأن تنوّر لهم ذلك النفق المظلم، يعني أنك دخلت في دوامة السعادة الداخلية، فغدا يتحدث داخلك بصوت مرتفع حتى يسمع خارجك، وتتلقى أكثر مما قدمت فمردوده إن لم يكن دنيا فالآخرة خير وأبقى ..
المشاعر تكون صعبة حينما تشعر بالجحود، والأقسى عندما يقابل العطاء بالجفاء، والإحسان بالإساءة، وأصعب المرارات عندما تكتشف أنك أعطيت ليكون المقابل هو النكران، فكيف يمكن بأناس يستسلمون وهم قد جبلوا على العطاء، وتعودوا على إسعاد الآخرين رغم نار تحرق بداخلهم، ولكن عدالة الحياة تكشف حتى ولو بعد حين، وكم كانوا أولئك أشقياء وهؤلاء من ربحوا، فالخير هو الذي يدوم، والشمس تشرق حتى لو غطتها الغيوم، والإدراك بأن العطاء إن لم يكن لله فهو سراب وهشيم تذروه الرياح، والقوة العظمى كلما خذلك أحدهم أعطيت أكثر، والإحسان لمن أساء لا يستطيع فعله إلا العظماء، فهذه ملكَة ربانية لا تمنح إلا لذوي حظ عظيم، قال -صلى الله عليه وسلم- " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ..
ازرع ثمار عطائك فإنها عند الله لا تذبل، وكن في حاجة أخيك ستجد الله في حاجتك، واعط كل ما تملك فالعطاء نهر جارٍ لا يتوقف، وبحر مائج لا يجف، كن شمسا مشرقة بالأمل، وأضيف عتمة من حولك دون النظر لمقابل، وكن معطاء لا تتوقف وإن قوبل عطاؤك بالجحود ..