يعتقد المتابعون للشأن التركي أن تركيا تعد احدى الدول التي تنتهج منذ أمد بعيد سياسة النأي بالنفس عن التدخل في شئون الدول الأخرى في المنطقة العربية والآسيوية، غير أن الأحداث والمستجدات الراهنة أثبتت أن هذا الاعتقاد الذي كان سائدا لعقود طويلة لم يكن صحيحا على الأطلاق.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان " الاستثمار الأجنبي في مناطق الصراع" فان الدولة التركية تسير على خطى جارتها إيران فيما يتعلق بسياسة التدخل والتغلغل في شئون الدول الأخرى من خلال فرض الوجود العسكري المباشر أو من خلال السعي لإيجاد أذرع لها في المنطقة كما فعلت إيران من قبل في كل من العراق واليمن وسوريا وغيرها.
أعلم كذلك وأنتم تعلمون أن تركيا تحاول أن تستفيد من كل الظروف والأزمات التي تمر بها المنطقة العربية لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية في آن واحد. وفي سبيل ذلك تسعى تركيا من حين الى حين الى دغدغة مشاعر المسلمين من خلال إطلاق بالونات إعلامية هدفها تضليل الراي الإسلامي لأجل لفت الانتباه الى أن الدولة التركية تضع حقوق الشعوب الإسلامية في سلم أولوياتها السياسية. ومن ذلك ما سمعنا به من بيانات تصدر عن أعلى المستويات في الدولة مثلما جاء على لسان الرئيس التركي ابان الهجوم الدامي على المصلين في مسجدي النور ولينوود في مدينة كرايست تشيرش بنيوزيلندا، عندما قال إن تركيا ستحاسب منفذ الهجوم أن لم تحاسبه الحكومة النيوزلندية.
نتساءل الآن أين تلك المحاسبة ان لم يكن الهدف من التصريح هو كسب تعاطف الشعوب الإسلامية مع الدولة التي ساد الاعتقاد بحرصها الشديد على قضايا الأمة الإسلامية والدفاع عنها ضد الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون في كل بقاع العالم! كما نتساءل لماذا تتأخر محاسبة المتهمين بمضايقة السياح السعوديين في تركيا؟، ولماذا لم تكشف السلطات التركية حتى هذه اللحظة عن حقائق مصرع المقيم الفلسطيني زكي مبارك في مقر اعتقاله في انقره؟، ولماذا تماطل السلطات بنتائج تشريح الجثمان ان كانت حقا تحترم حقوق الانسان؟
وعموما فإنني لن أتساءل هنا عن ذلك الاهتمام التركي الشديد لتدويل قضية الكاتب السعودي جمال خاشقجي رحمه الله، وسعيها الحثيث لإيصال القضية لمجلس الأمن الدولي ضد دولة إسلامية عضو في منظمة المؤتمر الاسلامي. فالعالم يدرك تماما أن تركيا لا تهتم بقضايا المسلمين والدفاع عن الدول الإسلامية بقدر اهتمامها بالمصالح التركية مع أوروبا وروسيا. لم يعد القناع الإسلامي للسياسية التركية يحظى بمصداقية كبيرة في الشارع الإسلامي حتى وان تراءى لبعض الواهمين حرص تركيا على احترام حقوق الانسان في الوقت الذي تشير فيه بعض تقارير المنظمات الحقوقية الى محاولة الدولة التركية ترميم سجل حقوق الانسان هناك.
ان كل المواقف التركية المعلنة من الناحية النظرية تسر المسلمين وتجعل من تركيا في نظر الآخرين دولة حريصة على مصالح المسلمين في كل مكان, ولكن عندما نبحث أو نتساءل عن سبب عدم تطبيق هذه النظريات والمواقف السياسية, فإننا نتفاجأ بأن تلك الوعود والتصريحات والشعارات الرنانة ليست الا من أجل الاستثمار عسكريا داخل حدود الدول الإسلامية ذاتها كما حدث من تدخل عسكري في قطر والسودان وسوريا تحت غطاء اتفاقية حماية النظام القطري, وملاحقة عناصر وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا, وبذريعة التعاون الاقتصادي للاستثمار في جزيرة سواكن استغلالا لحاجة السودان الفقير الى المال التركي لدعم الاقتصاد.
ونعلم أيضا أن الاهتمام التركي بقضية خاشقجي لم يكن ليحدث بتلك الإجراءات المكثفة والخطوات المتسارعة والبيانات المتضاربة لولا رغبة تركيا في الاستفادة من هذا الحدث على حساب علاقاتها مع دولة إسلامية كبرى لأجل أن تقوم فقط بتلميع صورتها العثمانية بما يسهم في تحقيق مطالبها بالانضمام الى الاتحاد الأوروبي. نعلم أن هذه المناورات السياسية التركية انما تأتي في إطار بحث أنقره عن الاستثمار سياسيا وعسكريا في أي قضية أو توتر أو صراع في المنطقة العربية.
وفي تقديري أنها لو كانت حقا حريصة على استقرار المنطقة لما دخلت بقواتها الى قطر، ولما أقدمت خلال شهر يناير من العام الماضي على تحريك قواتها العسكرية تحت شعار عملية " غصن الزيتون" ضد جماعات كردية سورية مقاتلة في منطقة عفرين الحدودية بهدف السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية وملاحقة وحدات حماية الشعب الكردية في عقر دارها. وما الذي يمنع تركيا التي تتباهى بقوتها العسكرية من تحريك هذه القوات الى الجولان المحتل أو الى قطاع غزة الجريح لأجل فك الحصار وتقديم المعونات. ألا يعد التظاهر بخدمة قضايا الشعوب الإسلامية نوعا من المتاجرة بقضايا الدول الإسلامية؟
انني استغرب كيف لدولة إسلامية كبيرة أن تتجاهل مصرع عشرات الصحفيين الأبرياء خلال تغطيتهم لمسيرات احياء ذكرى حق العودة في قطاع غزة بينما تبذل انقره جهودا كبيرة وتحشد كل إمكاناتها بعد مقتل خاشقجي لأجل الضغط على الدول الغربية بهدف اتخاذ موقف دولي لفرض عقوبات على المملكة العربية السعودية، الدولة الإسلامية الكبرى التي ما فتئت تقدم المساعدات الاغاثية بمليارات الدولارات وترسل أطنانا من شحنات المواد الغذائية والدوائية لكل الدول الشقيقة والصديقة.
وباختصار شديد أقول إنه لم تتمكن تركيا ولن تتمكن من تحقيق أهدافها في المنطقة العربية وسوف تتبدد كل الطموحات الأردوغانية والأتاتوركية كما تبددت وتبخرت الطموحات العثمانية من قبل في المنطقة العربية وفي دول العالم الأخرى. وليعلم الذين يسيرون على خطى إيران وغيرها أن مكانة المملكة العربية السعودية والقيادة السعودية ستكون عصية ومستحيلة على أن ينال منها الطامعون والحالمون والواهمون بقدرتهم على زعزعة الاستقرار فيها.