في تاريخنا وزراء كتّاب كثر، وهي سمة ظلّت تصاحب رجال الدّولة بما وهبهم الله من قدرات فائقة على التّفكير والكتابة بفنونها، وتكاد أن تكون مشتركة بين أمم الدّنيا قاطبة. وفي مقابل هذه الكثرة يتطلّب نموذج الفقيه الوزير ورجل الدّولة تزايدًا على مرّ الأيام، فلم تعد ظاهرة ابن هبيرة وابن حزم وابن خلدون حاضرة فينا بما يكفي.
وأمام ناظريّ نموذج متكامل نادر، فهو عالم وفقيه، ولغوي وداعية، وكاتب ومفكر، وأديب ومؤرخ، ومدير ووزير ورجل دولة، ورحّالة ومتحدّث، ورائد في العمل الخيري المحلّي والعالمي، واسم كبير حين يذكر أو حين يُغفل بمكر الشّانئين، وفوق ذلك سياسي كتوم، ومضياف بشوش كريم، ذلكم هو معالي الشّيخ د. عبدالله بن عبدالمحسن التّـركي كما بدا لي عند قراءتي في لمحات من ذكرياته المطبوعة.
ولد في حَرْمة يوم الاثنين الثّاني عشر من شهر ربيع الأوّل عام 1359، وهو يوم حي في وجدان العالم الإسلامي، وأولى من الاحتفال بيوم المولد اقتفاء منهاج صاحبه عليه الصّلاة والسّلام، فتاريخ مولده الشّريف مختلف فيه، بيد أنّ دينه واضح، وسنّته مشهورة منشورة، وآمل أن يكون أبو فهد قد نال بهذه الموافقة بركة الوجدان، وحسنات الاتّباع، ونعمة الرّفقة الأخرويّة.
تحاط مسيرته التّربوية بأبوين صالحين، وبيت متآلف، وأسرة كبيرة متماسكة، يزداد نشاطها وترابطها مع الأيام، وتقوى صلتها ويعظم تواصلها البيني ومع الآخرين، ثمّ حظي بتعليم ممتاز وإن كانت إمكانات البدايات ضعيفة، ودرس على يد أساتيذ أجلّاء، وزامل آخرين من ذوي الهمّة والنّشاط.
ولم يدع منفذًا لاكتساب علم أو خبرة إلّا وخاض غماره، ولذلك تصف مسالكه في طلب العلم الجديّة، والمثابرة، وإتعاب النّفس في القراءة، والبحث، وإنشاء العلاقات، ومتابعة الجديد من الكتب، ودواوين الشّعراء، وندوات المفكرين، وأخبار الصّحف، حتى تظارف بعض لداته بتسميته: قالت الصّحافة!
ووهبه الله مهارة عالية في العمل سواء في إدارة الموجود وتطويره، أو في تأسيس الجديد والانطلاق به، مع إحداث نقلات نوعيّة بادية للمنصف، ومن سماته العملية البارزة حُسن اصطفاء الرجال، والقدرة على فرز قدراتهم ومواهبهم، وغرسها في المواضع المناسبة، ووضعْ أكثر من نواة لأعمال تتعاظم حين الحاجة لها، مع الجرأة في إنشاء المجالس والهيئات، والتّواصل مع الوزارات للمطالبة بالدّعم المالي والوظائف، ونيل المكانة الملائمة لجامعة شرعيّة، ووزارة دعويّة، ورابطة إسلاميّة عالميّة.
وله ولعٌ ظاهر في بناء العلاقات وتوثيقها مع طبقات المجتمع المحلّي والإقليمي والدّولي كافة، ولذلك نجح في كسب تأييد علماء وكتّاب وزعماء ووزراء وسفراء وأثرياء، وتحييد خصوم ومخالفين للمملكة ورسالتها، واستقطاب أسماء وضّاءة في ميادين العلم والبحث والتّحقيق، وبذل لهم يدًا طويلة لا تنسى، ومن أبرز ما يشار إليه بافتخار في مجال التّراث والتّحقيق العلائق المتينة مع العلّامة أبي فهر محمود شاكر و أ.د. فؤاد سزكين، والتّعاون مع المحققين محمّد رشاد سالم و د. عبدالفتاح الحلو وشعيب الأرنؤوط وغيرهم.
وتجري مع دماء الرّجل وفي أمشاجه شؤون الدّعوة، وتبليغ دين الله، ونشر الخير والمعرفة، وافتتاح المعاهد والمراكز والمساجد والمكتبات، مع حرص على التّوافق والتّصالح والتّوازن، وهي سمات مطلوبة في كلّ عمل، وفيما كان لله على وجه الخصوص، ولذلك تقدّم وتأخر ومصلحة العمل الدّعوي لا تغيب عن تقديراته وقراراته.
وله فضل كبير في شراء المخطوطات الأصليّة أو المصوّرة حتى غدت مكتبة جامعة الإمام ذات مرتبة رفيعة في هذا المجال، واقتحم الشّاشة في زمن جفل عنها الذين وصفوه بشيخ التّلفزيون! وإذا قرأ المسلم التّفسير الميّسر فلشيخنا وفريقه أجر، وحين تُترجم معانيه إلى لغات أخرى فلهم نصيب من ثواب شيوع معانيه الأقرب للمعتقد الصّحيح.
وتميّز بالاهتمام بالتّراث وتحقيقه، وبخاصّة كتب المذهب الحنبلي إذ درسه ودرّسه، وكانت رسالته في الدّكتوراه عن أصول مذهب الإمام أحمد، وله اهتمام كبير بتاريخ الدّولة السّعوديّة منذ نشأتها وحتى يومنا، وعني بدعوة الشّيخ محمّد بن عبدالوهّاب؛ وألّف كتبًا عن الإمام محمّد بن سعود والملك عبدالعزيز، وعقد في الجامعة حين كان مديرًا لها أوّل مؤتمر عالمي عن دعوة الشيّخ محمّد بن عبدالوهّاب، وعن تاريخ الملك عبدالعزيز، وأبرز مؤتمر في مواجهة احتلال الكويت، وحينما كان في الرّابطة ركز على الحوار الإسلامي والعالمي برعاية الملك عبدالله، وله مؤلّفات في الأمن الفكري ومحاربة الإرهاب، وجهود المملكة في ذلك.
ويَنسب معاليه الفضل لأهله ولا يدّعي التّفرد بالإنجاز، ويحفظ الوداد والوفاء لصحبه ورفاق دربه، كما يعترف بإمكان الخطأ والتّقصير فهما من خصائص البشر، والعيب في إنكارهما وليس في الاعتراف بهما، وهو مسؤول يشدّ الأزر، ولا يكون منه الوزر، ويحسِن تمثيل المملكة وخصوصيّاتها، ويبدع في العمل، ويبرع في الحديث، ولا يُغضي مواطنوه حياء من تصريحاته ومنجزاته، والله يحمي البلاد ممن يسيء إن قال وإن كتب وإن فعل.
لا يلتفت الشّيخ لمن حصروا حياتهم في الّلمز، ومساوئ الظّنون، ومتاهات التّصنيف، وألوان القيل والقال، ويلقي إفكهم دبر أذنيه وخلف ظهره، ويمضي للعمل، وقد يتمهّل دون أن يقف؛ فلو وقف لمناقشة جميع ما قيل، وكلّ من قال لما راوح مكانه، ومن جبلّة جملة من النّاس شخصنة الأعمال، وقلّة الإنصاف، وعند الله الملتقى، ويكفي مناوئيه غيظًا يفيض أنّ سيرة أيّ عمل شارك فيه التّركي يستحيل أن تروى بموضوعيّة دون أن يلمع نجمه، وتبرز آثاره، ويتردّد اسمه.
وصنع رجل الدّولة للمملكة قوّة ناعمة في جميع مهامّه، وصبّ خلاصات نتاجه إن في الجامعة أو الوزارة أو الرّابطة من علماء ومؤسّسات ومراكز قوى في صالح نصرة دين الله، ونشر معتقد أهل السّنة، والدّفاع عن الحرمين الشّريفين وشؤون الحج، وأمن المملكة وقادتها وشعبها، وتلك - لعمر الله - قوّة لا يُستهان بها ولا يزهد.
وقبل أكثر من عقدين، روى لي صديق عن مسؤول في جهاز رقابي قوله: فحصنا مشاريع الوزارات والجامعات، فلم نجد هللة واحدة تغمز من ذمّة د. التّركي الماليّة، وأخبرني آخر أنّ معاليه حين صمّم المدينة الجامعيّة مع فريقه زار الجامعات الأخرى، وعرف الحسن والخطأ وما يمكن إضافته أو تعديله، وأفاده ذلك كثيرًا في مبنى الجامعة الذي أدهش مسؤولًا زائرًا فقال: ذهلت من قدرة المشايخ على هذا الإنجاز الباهر!
وسرّ ذلك يكمن في التّخطيط، واستثمار الكفاءات، واستقطاب القدرات، ومتابعة العمل، مع الدّقة والانضباط، وفيما يبدو لي أنّ الشّعور برساليّة الأثر، وشخصيّة الرّجل الوثّابة بعزم دون يأس، مع حنكة وبصيرة، كان لهما تأثير كبير في أعماله الكثيرة الخاصّة بالإنسان، والمكان، والمؤتمرات، والعضويّات، والكتاب مطبوعه ومخطوطه، والتّأليف والتّحقيق، والإغاثة والدّعوة، وغير ذلك.
وفي سيرته طرائف، منها ارتباطه مع الرّقم (40) إذ صرم أربعين عامًا في جامعة الإمام دراسة وعملًا، وحين أكملت رابطة العالم الإسلامي عامها الأربعين صار أمينًا عامًا لها، وعلاقته مع العلّامة الشّيخ ابن باز استمرت لأربعين سنة، ورحلاته الخارجيّة تجاوزت أربعين عامًا، ومكث وزيرًا للشؤون الإسلاميّة بعد تجديد نظام مجلس الوزراء أربعين شهرًا وزيادة يسيرة، ومع اقتراب أربعينه العمريّة الثّانية انتقلت والدته حصّة بنت عبدالله السّلمان إلى جوار ربّها.
ومن مواقف سيرته أنّه رأى كفيفًا في صامطة يعمل أمينًا لمكتبة بمهارة، وأصيب الشّيخ إبّان طفولته بمرض صيّره أعمى مئة يوم حتى شفاه الله، وبسبب نقص المعلّمين في المعاهد، وقع عليه الاختيار ليكون معلّمًا في معهد المجمعة وهو طالب في ذات الوقت بكليّة الشّريعة بالرّياض، ودرّس مقرّرات منها الجغرافيا والحساب! وبعد التّخرج في الجامعة قضى سنوات عذبة في حائل الأنيسة مديرًا لمعهدها العلمي، ومن الّلافت للنّظر أنّ نصيب موضوع الأوقاف من الكتاب على ضخامته صفحة واحدة فقط!
وله مرويّات عن بديهة الملك خالد ورقّة قلبه، وللملك خالد أجوبة وتعليقات طريفة، وهي جديرة بالجمع بعيدًا عن رسميّة السّير الملكيّة، وآمل أن ينهض بنوه ومؤسسته بذلك، ولمعالي الشّيخ علاقات متينة مع ملوك المملكة وأولياء العهد، وهي تستحق الإفراد في كتاب، خصوصًا تلك التي مع الملك فهد، ومع الملك سلمان خلال إدارته للجامعة، وعمله في الوزارة.
وللوزير العالم قصص ووقائع مع علماء ومحاورين، فيها فوائد في الورع، والفهم، والتّوكل على الله، والقراءة، والحيويّة، والتّجرد للحق، وصدق الأخوّة، وبقاء النّزعة الإنسانيّة في المرء مهما سما وبلغ في العلم مرتبة وبين العالمين مكانة وقدرًا. وفي سيرته أوليّات وصداقات وحكايات، وفترات امتازت بخصب علمي وعملي وثقافي، وأعلن عزمه على كتابة خاصّة عن ذكرياته مع النّاس والعمل والسّفر والكتب، وليته أن يبادر بها ولو على هيئة مادّة صوتيّة تحرّر لاحقًا.
ويترافق سفر الشّيخ مع أحداث مهمّة، وهو كثير التّرحال، ولذلك لا نعجب أن يأتيه خبر وفاة الملك خالد، واحتلال الكويت، وهجمات سبتمبر، ووفاة بعض أقاربه وأحبابه أثناء سفره أو على أهبة السّفر، ولكلّ موقف ما يستلزمه من تفاعل وإجراء، يزيد في الخبرة، ويصبح من الذّكرى، وأوّل رحلة له في خدمة الدّين والمملكة كانت عام (1388) بتكليف من الملك فيصل لزيارة معظم دول أفريقيا واستمرت ثلث عام، ومن أبرز رحلاته جولة بتكليف من الملك فهد شملت ثلاث قارات إبّان الغزو العراقي للكويت، وجولة عالميّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتصحيح الصّورة عن الإسلام والمملكة وتبرئتهما من الإرهاب.
وأحاط المؤلّفُ القارئ علمًا بأخبار زعماء يحملون المصحف معهم بيد، وسجادة الصّلاة بيد أخرى، ولديهم مخزون ثقافي كبير، ومحبّة للخير ظاهرة على ألسنتهم وبعض أعمالهم، إضافة لوزراء وسفراء وأثرياء لا يتوانون عن تقديم الخدمات المباركة، وكم نحن بحاجة لاستثمار هذه المشاعر والمواهب والنّفوس الخيّرة وتوظيفها في الإصلاح والتّحسين وإيلاف القلوب.
وبعد أن زار الشّيخُ السّفير الشّبيلي في ماليزيا تمنى على الملك خالد أن يحتضن الشّبيلي أيّ سفير جديد كي يقتبس من أبي سليمان فرائده، ويحق لي بعد قراءة كتاب: لمحات من الذّاكرة، الذي كتبه معاليه عن طرف من سيرته الذّاتيّة، وطبعه عام (1436) طبعة خاصّة لأسرته وأصدقائه في (665) صفحة، أن أقتبس ذات الأمنية، فيمنح معاليه طلّابه وأصدقاءه التفاتة ووقتًا؛ كي تعظم آثارهم، وتكثر خيراتهم، ويحكِموا أعمالهم، لينفع الله بهم البلد وأهله، والأمّة وأفرادها.
_______________
د.عبدالله التركي
أحمد العساف