ما الذي يدفع الفرد إلى أن يطلب شظف العيش وقساوة المعيشة على لينها وحلاوتها، بحيث يصبح مأكله غثا ومشربه كريها وثيابه بالية وحياته خشنة قاسية؟ هل لأنه من الفقراء المحتاجين إلى المال أم لأنه يعيش في نسق من الحياة الضاغطة التي فرضت عليه البخل بالمال؟ أم لأنه من البخلاء الذين لا يرتبط سلوكهم بالفقر أو الغنى؟.
فلماذا إذن يبخل الإنسان؟ وهل يقتصر البخل على الجوانب المادية من حيث إمساك المال، أم أنه يشمل الكف والمنع والإمساك في جوانب الحياة النفسية والاجتماعية كافة؟
إن البخل هو إمساك المال ومنعه وتجميعه واكتنازه وحفظه في مورد لا ينبغي إمساكه، فهو الاحتفاظ بالمال في صورة سيولة نقدية معطلة غير مستغلة أو متداولة، وهو الإمساك والتقتير عما يحسن السخاء فيه، وهو ضد الإنفاق والجود والكرم، وعدول عن الإنفاق في الحاضر والمستقبل.
فالبخل إذن يرتبط بمن يملكون المال، فلا يقال إن فلانا بخيل إلا وهو ذو مال، وهو صفة تبعد عن الفقراء المحتاجين إلى المال، ذلك لأن الفقير ليس لديه ما يكنزه أو يمنعه كي يطلق عليه بخيل، فالبخيل هو من يملك المال ولديه قدرة على الإنفاق لكنه يعطل عن عمد وقصد تلك القدرة فيمتنع عن الإنفاق.
وعادة ما يرتبط البخل بالذم والقبح، وما أصدق الشاعر حين يصف قبح البخل فيصف بخيلا اسمه عيسى فيقول:
يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد
ولـو يستطيع لتـقـتيره تنفس من منخر واحد
ويقول شاعر آخر:
يحاسب الديك على نقره ويطرد الهرة من الدار
يكـتـب فـي رغـيـف لـه يحـرسـك الله مـن الفار
البخل سلوك إنساني معقد ومتشابك يتكون من العديد من الانفعالات والدوافع النفسية والاجتماعية والاقتصادية. وهو سلوك قد يرينا كيف أن هوس الثراء يدفع بالفرد إلى الرغبة العارمة في امتلاك المال، حتى لو كان ذلك على حساب الذات التي تمردت على كل الرغبات والملذات في سبيل رغبة واحدة هي المال، ولذة واحدة هي جمع المال واكتنازه.
كذلك البخل هو انحراف في غريزة المحافظة على البقاء، وهو الصورة المرضية من الرغبة في التملك والادخار، ذلك أن الأسوياء من الناس قد يميلون إلى سلوك التملك والادخار والمحافظة على بقائهم بهدف الشعور بالأمن في المستقبل، لكن البخلاء يتجاوزون بسلوكياتهم الهدف من المحافظة على البقاء والتملك والادخار والاقتصاد والتوفير في شكل من العدول الدائم عن الإنفاق في الحاضر والمستقبل.
جاء في كتاب ( هوس الثراء وأمراض الثروة ) قول مؤلفه د . أكرم زيدان : إن سلوك البخل ينقسم إلى عدة أنواع منها: بخل الحرص والتدبير، بخل الوهم والخداع، بخل الحسد، بخل المحافظة، البخل الانفعالي.
- بخل الحرص والتدبير: وهذا النوع من البخل لا يصل في إمساكه ومنعه وتقتيره إلى الدرجة المرضية التي يمكن أن نصف فيها الفرد بأنه مريض بالبخل. فهو بخيل ويصف الناس بالبخل.
- بخل الوهم والخداع: وهذا النوع من البخلاء لا يدرك أنه بخيل، بل على العكس يخدع نفسه أنه كريم وجواد ومعطاء.
- بخل الحسد: إذ يتصف البخيل الحسود بأنه مادي وقاس وعدواني، حقود ومشاكس، كتوم ومنغلق على ذاته، ودائما ما لا يقنع بما يمتلك، وينظر إلى ما في أيدي الآخرين حتى لو كان ما يمتلكه الآخرون تافها وقليلا قياسا بما يمتلكه.
- بخل المحافظة: فقد يتصف البخيل المحافظ ببعض خصائص البخيل الحسود من حيث الادخار القهري والكتمان والعدوانية، ولكنه يتميز بالحقد على الآخرين إذا كانوا يمتلكون أكثر منه.
- البخل الانفعالي: حيث لا يقف البخل عند الجوانب المادية والمالية فقط وإنما ينتشر إلى جوانب الحياة النفسية والاجتماعية كافة، ويبدو ذلك في ما يمكن أن نسميه البخل الانفعالي وهو تلك الحالة التي يمسك فيها الفرد عواطفه الإيجابية ومشاعره التي تخدم الآخرين، فيبدو عن عمد قليل الكلام عديم الانتباه، فاقدا للاهتمام ولا يبالي بمشاعر الآخرين ورغباتهم.
إن البخل لا يقف عند الجوانب المادية من حيث إمساك المال ومنعه، إنما قد يمتد إلى جوانب الحياة النفسية والاجتماعية كافة، فلا يرتبط بجانب واحد من الشخصية، بل ربما يشمل الشخصية كلها، وفي كتابه ( البخلاء ) يحدثنا الجاحظ عن أنواع البخل والأنماط السلوكية للبخلاء فيذكر البخيل المفتون، والبخيل المضياع، والبخيل النفاج، والبخيل الذي ذهب ماله في البناء، والذي ذهب ماله في الكيمياء.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية