" تخفيف المعاناة على الأفراد، حماية حياتهم وحفظ صحتهم، واحترام شخص الإنسان " هكذا عرفت محكمة العدل الدولية الإنسانية في حكمها الصادر بالقضية المتعلقة بالنشاطات العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا ، كما عرفها ماكس هوبر رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأنها الاعتراف غير المشروط بقيمة كل إنسان، وخاصة الضعفاء والمرضى والأسرى أو أولئك الذين هم في خطر أو المحرومين من حقوقهم والفقراء.
ومن خلال هذه التعاريف يتبين لنا أن هذا المبدأ وإن كان وارداً في النصوص القانونية ويؤخذ به من قبل المحاكم واللجنة الدولية الحارسة للقانون الدولي الإنساني واتفاقياته وملحقاته إلا أنه مبدأ منطقي فطري يتعلق بكرامة الإنسان لا يجوز المساس به، ولو فصلنا في الجانب القانوني أكثر وجدنا أن اتفاقيات القانون الدولي الإنساني كاتفاقية لاهاي أكدت على هذا الجانب من خلال تقييد استخدام القوة في النزاعات وحظر أنواع عديدة من الأسلحة التي قد يتعدى مداها الأهداف المنشودة كذلك الالتزام بمبدأ الضرورة العسكرية، كما أن اتفاقيات جنيف أكدت على حماية الضحايا المدنين أثناء النزاعات المسلحة سواء كانوا في البر أو البحر أو أسرى أو مدنيين بصفة عامة.
لقد كان هذا المبدأ في منطقه واضحاً فقد اعتبر البشر كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، لذا كانت القوانين صارمة في التأكيد على هذا الجانب وإن كان مبدأً سامياً لا تضيف له نصوص القانون إلا صلاحية المحاكمات القانونية التي لا تكون أحكامها منصفة في كثير من القضايا والأحكام.
هل أصبحت الانتهاكات لهذا المبدأ تمس سيادات الدول فقط دون الكرامة الإنسانية التي نبع منها هذا المبدأ !!
من جانب آخر اهتمت الشريعة الإسلامية بحفظ كرامة الإنسان دون النظر إلى لون أو دين أو عرق أو أي مفارقات أخرى وفي مقابل اتفاقيات القانون الدولي الإنساني المنعقدة في 1949 وما سبقها من اتفاقيا 1864-1906-1929، نجد أن الشريعة الإسلامية اهتمت في نصوصها وأعرافها بكرامة الإنسان وتشريع سبل وأساليب الحرب في تلك الأيام كانت تهدف لنشر رسالة الإسلام وكانت دوافع السلم والسلام تسبق الحرب، فالرسل للأعداء كانوا مبشرين ومنذرين، والبشرى تسبق الإنذار والإنذار يسبق الحرب، وإن لم تكن استجابة فالجزية تحفظ الحق والكرامة، وإلا فالحرب بمبادئ الإسلام تكون، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول ( اخرجوا باسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع ) ، كما وصى أبو بكر الصديق في وصيته المشهورة قال: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمآكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئاً بعد شئ فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله، أفناكم الله بالطعن والطاعون "
هنا كان للشريعة الإسلامية بيان واضح لمعايير النزاع وقد شمل ذلك ما ورد بالاتفاقيات القانونية من حماية للأعيان المدنية والمدنيين وتقييد استخدام القوة المفرطة وفي الآية الكريمة نص عام وتوجيه واضح بصيغة الأمر حين قال الله في محكم تنزيله ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) لقد كانت الشريعة الإسلامية بنصوصها أشمل من مبادئ القانون لتشمل حتى الأرض والشجر والأنعام .
نعم هذا هو مبدأ الإنسانية الذي يفسر بالعقل والمنطق قبل النصوص والأحكام، ومن هذا المبدأ انطلقت فكرة القانون الدولي الإنساني وتأسست منظمات وتحالفت دول، ولكن هذا المبدأ حينما ترسخ في متون الاتفاقيات الدولية تحايل بعض الدول في تنفيذه خصوصاً لما يستجد من جرائم الإنسانية التي لم تذكر أو تحدد في ذات الاتفاقيات الإنسانية القانونية لاختلاف الزمان والوسائل وظهور أسلحة أو أساليب قتالية لم تكن موجودة.
لذا كان مبدأ الإنسانية في منطقه أقوى منه في اتفاقياته وأحكامه وتم النص على ذلك في مبدأ المندوب الروسي فريدريك مارتينز في مؤتمر السلام المنعقد في لاهاي 1899 والذي دخل التاريخ بهذا المبدأ أو كما يسميه البعض شرطاً.
مارتينز كان يقول " حتى في غياب أي قاعدة محددة (أو حظر محدد) يظل الأشخاص المدنيون والمقاتلون تحت حماية وسلطة مبادئ القانون الدولي كما استقر بها العرف ومبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام "
يعني ذلك بأن الحد الأدنى الذي يتعين على كل قانوني يهتم بالقانون الدولي الإنساني أن يكون ملماً به فحتى لو سها عليه الإلمام بنصوص إتفاقيات جنيف أو بروتوكوليها الإضافيين أو القواعد العرفية فإنه ينبغي له أن يحتفظ في فكره ومنطقه بهذا المبدأ الأساسي الذي يقضي بأن تكون الأركان الثلاثة لهذا المبدأ من الضمير العام ومبادئ الإنسانية وما استقر عليه العرف هي الحُكم والحَكم.
يجب التوضيح أولاً أن مبدأ مارتينز وإن كان يهتم بشكل أساسي في حماية المدنين من جانب إنساني إلا أنه لا يلغي استخدام الأسلحة كما في حالة الضرورة العسكرية ولكنه يشير في مضمونه إلى أن الحماية القانونية متى ماوجدت فإن الحق الإنساني في الحماية لا يلغيه عدم النص أو الإشارة في المعاهدات والإتفاقيات فإن شرط مارتينز بوضوح شديد في المعنى نص على أنه كل ما لا يكون محظوراً صراحةً بموجب معاهدة أو اتفاقية أو عرف دولي لا يكون مسموحاً به مع ذلك.
وبالعودة إلى اتفقايات جنيف أو مبادئ الإنسانية نجد أن مبدأ مارتينز حصل عليه اختلاف دولي كبير لعدم تحديد المدى الذي يمكن تطبيق هذا المبدأ عليه، ولكن التساؤل المنطقي هو عن رأي محكمة العدل الدولية في هذا المبدأ وهل يؤخذ به؟
دائما ما يضرب المثل في هذه المسألة على الموضوع المتعلق بفتوى مشروعية استخدام الأسلحة النووية وحيث أن عدداً من الدول لم ترى ما ينمع من استخدام هذه الأسلحة نتيجة عدم وجود نص صريح يجرم استخدامها وحين النظر إلى مبدأ مارتينز بهذه المسألة يحتجون بعدم الإجماع على هذا المبدأ في الجلسات العلنية للمحكمة، من أبرز هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا الذين يرون ضرورة استخدام الأسلحة النووية كسياسة للردع قانونياً.
على العكس تماماً كانت وجهة نظر عدد من الدول والمنظمات على رأسهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر المكون الأساسي للحركة الدولية، كذا كان الحال والرأي الذي ولد من رحم معاناة الحكومة اليابان التي ترى أن السلاح النووي يسيء للروح البشرية بطريقة بشعة، كما اتفقت دول أخرى تصل إلى 14 دولة من بينهم أستراليا والمملكة المتحدة على أن المبادئ العامة للإنسانية تقضي بعدم مشروعية استخدام السلاح النووي وأن مبدأ مارتينز الذي يعتبر مبدأً إنسانياً عرفياً وإن تم النص عليه في بعض الديبجات قد كان كفيلاً بالحماية للإنسان في مثل هذه الحالات التي لم يتم النص فيها على سلاح بعينه وحيث أن هذا السلاح مضر للإنسان والبيئة لذا وجب تجريمه استناداً لهذا المبدأ.
وسأورد هنا بعض المقولات الشهيرة لبعض القضاة وجدتها في أحد المقالات المتخصصة وهي جديرة بالطرح لما لها من معنى مؤثر حيث أنها أتت من أهل الاختصاص مما يثبت احترام القضاء الدولي لمبدأ مارتينز وأخذه بعين الاعتبار ومن ذلك :
القاضي (كوروما): البحث العقيم عن حظر قانوني محدد لا يمكن أن يفضي إلا إلى شكل متطرف من أشكال المذهب الوضعي
القاضي (شهاب الدين): شرط مارتينز لا يقتصر على تأكيد القانون العرفي لأن ذلك غير ضروري وإنما سمح بمعالجة مبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام باعتبارها مبادئ القانون الدولي وينبغي التأكيد عليها في ضوء الأحوال المتغيرة.
القاضي (ويرمانتري): شرط مارتينز يبين بوضوح أنه توجد وراء هذه المبادئ المحددة التي تمت صياغتها بالفعل مجموعة من المبادئ العامة الكافية لتطبيقها على الأوضاع التي لم يسبق تناولها.
بقلم : إبراهيم خالد الدوسري
مستشار في القانون الدولي الإنساني
التعليقات 3
3 pings
مشاري
14/11/2018 في 2:38 م[3] رابط التعليق
بارك الله في قلمك ابو خالد
(0)
(1)
فيصل الهدهود
23/11/2018 في 1:36 م[3] رابط التعليق
انت مبدع في ذاتك .. فكيف لا يكون قلمك مبدعا .. من اروع المقالات التي قرأت .. بالتوفيق يا صديقي
(0)
(1)
زبن عطاالله
23/11/2018 في 5:26 م[3] رابط التعليق
لكل أنسان ابداع فأنت من جمع الابداع كله تحت اسم الإنسانية.
فهنيئاً لك اخي إبراهيم ودمت فخراً للوطن
(0)
(1)