عندما تكتفي بنفسك
يصبح وجود الناس في حياتك لطيفا
وغيابهم لايضر..!
? التعليق :
هذه فكرة تعزف على غواية العزلة والانزواء التي تتوق إليهما كل نفس بشرية وتحديدا كل ذات مبدعة.
ولافرق بين العزلة والإنزواء إلا في تفصيلات بسيطة جدا..
_ فالعزلة : أن تعتزل محيطك برغبة منك رغبة مجردة ونورانية مطلقة للتوحد مع ذاتك أو مع نور خارج محيط الكون.
ولذلك يحاول المعتزل ابتكار مبررات اعتزاله التي تحميه من عقدة الذنب والتطهر وتشعره بالأفضلية..وأنه الأصح.
_ والانزواء : شيء من العزلة دافعه رغبتك في الانفصال عن الآخرين وعدم التواصل مع محيطك لسبب من الأسباب أيا كان هذا السبب..فلكل أسبابه المختلفة عن الآخر.
ولذلك يبتكر هذا أيضا مبررات انزوائه التي تشعره بالأفضلية..وأنه الأصح.
? والعزلة والإنزواء إذا ماجتمعا للتوحد والانقطاع عن المحيط أو للبعد عن التقاطع مع الآخرين والإحتكاك بهم أو الانقطاع الكلي عنهم من الرغبات التي تدغدغ كل ذان بشرية خاصة الذوات مرهفة الحس المبدعة المنجزة للأعمال الإبداعية التي تتسم بالفردية في التفكير والإبتكار والإنجاز والتصدير.
أو حتى المجبولة على طغيان التذمر من كل ماحولها وخاصة إذا ماكان طغيان التذمر هذا والتبرم من كل مايحيط بالذات مصدرا ملهما للنتاج الإبداعي الفردي وإن أودى بصاحبه إلى الجنون الكامل..
كما حدث مع الشاعر إدريس جماع صاحب القصيدة الشهيرة:( إن حظي كدقيق نثروه..ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعهوه)
وأيضا كما حدث للشاعر فهد العسكر والأديبة مي زيادة..والشاعر الأديب خليل حاوي الذي مات منتحرا بعد أن ألقى بجسده من فوق بناية في بيروت !
وأيضا الروائي المسرحي الموسيقي الفنان التشكيلي محمد بهنس الذي أماتته وحدته وانزوائه وعزلته جائعا مجنونا مكفنا بصقيع الشتاء وقروحه الغائرة في جسده وهو يلتحف أرصفة شوارع القاهرة أو بلاط المطعم الذي كان يفترشه عاريا لنومه !
وهو الذي من إبداعاته المتنوعة أهدى جيله من المشردين المحبطين إحباطه من الظلم والفقر وأهل الفقر (حليفة الله) أخرسا في مركب الحياة كما في كلماته :
بهديك احباطي..
حديث عابر في مركب عامة
بصوت واطي
بهديك طلة..لبيوت الخيش
وخيام تفتيش..
واسواق أرخص مافيها
حليفة الله
بهديك الفوضى..
شجار طفلين في ساحة روضة
بهديك الغربة..هتاف الموتى
وصمت التربة.
_ هذا هو محمد بهنس التشكيلي الذي كانت لوحاته تجوب معارض فرنسا وأوربا وأمريكا وهو كاتب رواية راحيل الذي تنبأت له الساحة الأدبية بميلاد طيب صالح جديد.
_ محمد بهنس الذي مات منعزلا منزويا مشردا على بلاط مطعم الخرطوم بالقاهرة وفي جسده تقرحات بعمق 15 سنتيمترا من فرط النوم عاريا على البلاط..ومات متجمدا من صقيع برد الشتاء القارس.
فلم تتمالك الشاعرة الإعلامية عفراء فتح الرحمن من رثائه يقصيدة كما لم ترثي أحدا من قبله فيما عدا قصيدتها الرثائية الموجعة في الشاعر الراحل محمد الحسن حميد الذي هو الآخر قبل وفاته إثر حادثة مؤسفة بعد عودته لبلاده عاش بعض الانزواء والعزلة في الرياض بين المغتربين من الأيدي العاملة وكان لي معه في الرياض قصة من المطاردة لإجراء حوار صحفي يطول شرحها.
? تقول عفراء فتح الرحمن في رثاء بهنس وكأنها ال(تراه)في العالم الآخر كما كان حاله عليه في الدنيا الدنية :
وإنني أراه..
تصاعد النشيج من قبره الحزين
في موته الحياة
الله يارباه..تقرح الجسد
تقيأ الفؤاد
من عالم القساة
لامال لاولد..وإنني أراه
يصارع الصقيع
يضاجع الفراغ
يهيم في الدروب
تلفه الدروب..
يموت في الدروب
لاعنا خطاه
ونحن من نفاه
في غربة الجسد
? أيضا الشاعر السعودي حمد الحجي الذي انتهت به الحياة إلى الموت في مستشفى شهار للأمراض العقلية بالطائف بعد أن لفته عزلة مدمره أجبرته على الانزواء لفرط خياله بأنه المخلوق المختلف الذي لايليق به أن يكون في هذا الزمان ولابين هؤلاء الأهل الذين لايمكن لهم الارتقاء لفهمه وتقديره فجثمت عليه ضغوطات النفس وعلل الوحدة وأوصابها حتى انتهى نهاية مأساوية وكأنه الذي تنبأ بنهايته في بيته الشعري :
يعز علي إن عشت دهرا
يكبل غل حبي ساعديا
نهاري مثل ليلي لاجديد
سوى الأوصاب جاثمة عليا
? قد يكون الاعتزال أو الانزواء أحيانا ضرورة..وربما غالبا حتمية.
خاصة إذا ماكان يحيط بالمبدع المختلف عن محيطه من يحيط به من نوعية أولئك الذين لايجيدون إلا تعكير الصفو وتقويض الجدران الخلفية للحياة
وليسوا من أولئك رحمة الله في الأرض الذين كلما وجدوا جدارا ينقض في نفس بشرية أقاموه..وقوموه بالحب والغفران معا إن لزم الأمر
ليستمر أجمل وأكمل من ذي قبل.
? فكرة الاعتزال..أو الانزواء
أو هما معا..
فكرة جيدة في المجمل
نافعة ومنتجة..
بشرط ألا تكون هائمة بويهيمية
كي لاتودي بالنفس البشرية والذات الإبداعية على وجه الخصوص إلى الجنون والتهلكة في أتون فوضى المشاعر المتضاربة وكأن المرء على الدوام (فيه رجال متشاكسون)
_ الفكرة جيدة في المجمل أيضا
إذا ماكانت منضبطة بكثير من الاعتدال بحيث لاتكون متشائمة نافرة متذمرة على الإطلاق
ولاتكون حالمة على الإطلاق..
ولاتكون أفلاطونية على الإطلاق
ولاتكون أنانية عالية (الإيجو) تتمحور حول الذاتية بمنتهى الأنانية السلبية
ف(جنة بلاناس ماتنداس)كما قال أسلافنا.
وأن يحب الإنسان للآخرين الخيرين مايحبه لنفسه..
أيضا هذه فضيلة إنسانية لايمكن التجرد منها بالكلية.
? الحياة الكهنوتية إجمالا فكرة غير أخلاقية..ومستحيلة التعايش مع الحياة بكل أفراحها وأتراحها بقبول أقدارها الخارجة عن الإرادة البشرية.
_ والحياة المنكرة للذات بالجملة وخالية من بعض (الأنا الصغرى الحميدة) التي تؤثر على النفس ولوكانت بها خصاصة بشكل منفلت غير منضبط ولامقيد..هي الأخرى فكرة مستحيلة
بل وغير مثمرة.
? على هذا علقت الصديقة المبدعة فنانة الموزاييك الفسيفسائية العربية سهير عبوشي قائلة :
حب الذات..والارتقاء ب(الأنا الصغرى)في (الأنا الكبرى) يستحق منا تقديرها وبث الأمل فيها.
فأجبت : هذا صحيح..ولكنني حاولت طرح فكرة الاعتدال بحسب مفهومي الذي أطرته وقيدته وعبرت عنه تلقائيا ودون تحضير مسبق في هذا السياق على وجه التحديد.
التعليقات 7
7 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
حنان عبدالهادي
09/11/2018 في 12:44 ص[3] رابط التعليق
استاذ صالح اجدت ورب البيت … قرأت بين السطور مايلامس خلجات الروح … وحلقت معك بتحليل واضح للأنا …
احياناً نحتاج العزله في حياتنا لنعيد ترتيب الاوراق المبعثره … لتستجمع ارواحنا قوتها … لكن هناك خيط بسيط بين العزلة المحمودة والعزله التي تسيطر وتصل للمدمره .. اذا استسفنا تلك العزله بهدوئها تملكتنا واصبحنا داخل قوقعه لامفتاح لها … لهذا صدقت فعلا لابد من الاعتدال ووضع الامور في ميزانها والبحث عن مخرج دائما أمام سطوة النفس بحيث لاضرر ولاضرار
(0)
(0)
زائر
12/11/2018 في 4:42 ص[3] رابط التعليق
حنان عبدالهادي
شكرا لمرورك العطر
أسعدتني والله
ورأيك أوسمة ونياشين فخر
تحياتي..
صالح بن حسين?
(0)
(0)
زائر
09/11/2018 في 1:10 ص[3] رابط التعليق
استمتعت بالقراءة، وأتابع بخض النتف من حياة مبدعين، ساوموا الغربة الذاتية بحريتهم الشخصية، ورفضوا التصالح مع ذواتهم، والذي يفضي حتما إلى التصالح، وعقد هدنة مع ماحولهم…ويبقى التعلّق بحبل الله، واستشعار مغزى الوجود الإنساني في الحياة دليل أقوى على معايشة الآخرين بكل متناقضاتهم، فنلازم ما يفيدنا ويرقينا…ونسقط ما لم يلزم…لتستمرّ الحياة، ونستمرّ على قيد الحياة.
(0)
(0)
زائر
09/11/2018 في 1:33 ص[3] رابط التعليق
ممنونك الله يحفظك
شرف لي مرورك العطر وكرم الاستمتاع بقراءة المقالة
وأسعدني تقاطعك الواعي
شكرا لك?
الكاتب/صالح بن حسين
(0)
(0)
زائر
12/11/2018 في 4:44 ص[3] رابط التعليق
شكرا لك أسعدني عاطر مرورك
ورأيك مناط التقدير والاحترام
تحياتي..
صالح بن حسين?
(0)
(0)
زائر
09/11/2018 في 11:31 ص[3] رابط التعليق
كل عزلة هروب والأصل في الخلق التواصل والاجتماع والانزواء باب من أبواب العزلة واحد متاهاتها عندما يكون المفكر والمبدع والنجوم البنى ينظر لها العامة هم من يقعون فرائس سهلة لعالم الظلمة و لرعب الخوف ولبلاط الشوارع قفز تلهو في وصولهم لقمة تقدير الذات الى هاوية سحق الذات ربما بالغوا في تمجيد أنفسهم وتوقعوا مزيدا من التمجيد فكانت أسباب عزلتهم
أ صالح بن حسين طرحك رائع وقيّم واستشهادات قويه ولكن ارجوا ان لا تجعل منها مبررا لبداية عزلتك
إبداعاتك لم تنتهي ونتطلع للمزيد
(0)
(0)
زائر
12/11/2018 في 4:50 ص[3] رابط التعليق
كلامك صحيح حفظك الله
لكن لكل عزلة ظروفها ومسوغاتها وأحيانا لاتكون برغبة الشخص..وأحيانا تكون خارج إرادته ولايد له فيها.
شكرا لعاطر مرورك
تحياتي..
صالح بن حسين?
(0)
(0)