لا يمكن إنكار جود الكثير من المثاليات داخل أذهاننا، تلك التي نؤمن بصعوبة الامتثال لها على أرض الواقع. إنما نحن وبرغم إيماننا بصعوبة تحقيقها، نحاول فرض البعض أو الكثير منها على غيرنا من الناس. فهناك الكثير من القيم التي تشكل مجتمعة، منظومة أخلاقيات كالصدق والعدل والمساواة والإحسان وتقدير الغير والمنافسة العادلة، وقيم أخلاقية أخرى حريٌ بأي إنسان أن يحملها. وهذه القيم التي تشكل منظومة رائعة في حد ذاتها، لا يمكن أن تجتمع في إنسان واحد تسري عليه القوانين البشرية المضادة لها كحب الإنسان ذاته والمصلحة الشخصية والتنازع و الأنا والقوقعة البشرية، وغيرها من القوانين.
فنحن نؤمن أن الإنسان ليس مخلوق بسيط، وإنما مركب من مجموعة أنظمة معقدة مادية وأخرى معنوية وأخلاقية، ويعتريه من النقص والنسيان والغفلة والجهل ما يفوق تصوره لنفسه. وهذا الإنسان نفسه لا يفتأ يحاول في كثير من الأحيان أن يطالب غيره بمخالفة تلك النواميس البشرية، باعتبار إمكانية أن يستبعد الإنسان كل مالا يلائمه استبعاداً كلياً.
وكأفراد داخل هذا المجتمع، نلاحظ هذه النزعة لمخالفة ما جُبل عليه الإنسان، فنجد الرئيس الذي لا يقبل الخطأ بالرغم أنه يخطئ في كثير من أعماله، والمدير الذي يطالب بالانتظام التام بالرغم أنه غير منتظم، والداعية الذي يأمر بالقيم العليا بالرغم أنه لا يقتدي هو نفسه بها، والكتاب والمؤلفين الذين يطالبون بإصلاح المجتمع بينما هم يناقضون أنفسهم ليل نهار.
هناك مسافات شاسعة بين المثُل العليا وبين إمكانية تطبيقها على أرض الواقع. فالإنسان لا يجد صعوبة في الدعوة للامتثال بالقيم السامية، إنما هو في الحقيقة يعجر عن تطبيقها على نفسه. والفرد في هذا المجتمع يعاني الكثير من الازدواج، فهو يرى مطالب المثاليين عالية، بينما يجد القيم التي يفرضها المجتمع عليه تختلف قليلاً أو كثيراً عن تلك المطالب. إنه من جهة مُطالَب بأن يكون فرداً مثالياً، وهذا بطبيعة الحال يعني أنه مُطالَب بتجاوز طبيعت، ولكنه من جهةٍ أخرى يرى أفراد المجتمع يقدرون قيماً أخرى.
إننا يجب أن نضع مقاييسنا ومطالبنا في متناول الأفراد، لا أن نصب فوق رؤوسهم تلك المقاييس التي لو حاولنا فرضها على أنفسنا لعجزنا.