الأدب – حسب تعريف الدراسات الأدبية - هو كل ما يثير فينا بفضل خصائص صياغته احساسات جمالية وانفعالات عاطفية, أو هما معا. ويقصد بخصائص الصياغة الشكل الفني كأن يكون ملحمة، أو رواية، أو مسرحية، أو قصة، أو سيرة، أو قصيدة، أو مقالة، ثم طريقة الأداء اللغوي. ويقصد بالإحساسات الجمالية اعتبار الأدب فنا من الفنون. أما الانفعالات فلا بد أن يتضمن الأدب حرارة العاطفة القادرة على تحريك وجدان الانسان. ومادة الأدب هي اللغة التي يصنع منها الكاتب أفكاره وأدبه مشحونا بالعواطف. ووفقا لبعض المصادر الأدبية فلا بد أن يؤدي الأدب وظيفتين متلازمتين هما المتعة والفائدة التي يجب أن تهدف الى عدم إضاعة وقت القارئ بما لا يعود عليه بالفائدة. فالأدب يمكن القارئ من القدرة على استيعاب اللغة بكل الوانها وأشكالها. "وبالنسبة لوظيفة تحقيق المتعة فتعني ألا تكون عملية القراءة عبثا يجب أداؤه، وانما الهدف هو الحصول على متعة القراءة، وذلك بفضل المهارة التي تم بها صياغة النص الأدبي".
إذا رجعنا الى تاريخ الأدب العربي سنجد أنه يزخر بكم هائل من الإنتاج الأدبي الغني بخياله الفني المستمد من أحداث تاريخية وفقا لما تخيلته الذاكرة وانتجت منه خيالا اسطوريا كما في ملحمة جلجامش العراقية وملحمتي الإلياذة والأوديسا الإغريقيتين. فقد تمخضت الأسطورة هنا من خلال عملية مزج الخيال بالحقائق كما ظهر في ملحمة جلجامش Gilgamesh التي تحكي تحولات مر بها الانسان على مر العصور، وتعود الى العصر الأوكدي في القرن السابع عشر قبل الميلاد. في هذه الملحمة الشعرية يبدأ الجنوح نحو الخيال برحلة جلجامش للبحث عن نبات الخلود بعد حزنه لموت صديقه الحميم أنكيدو الوسيم، ثم تنتهي الأحداث بالعثور على هذا النبات عندما قرر الذهاب الى بطل الطوفان الذي أخبره عن مكان النبات وحذره من الأشواك البحرية، فغاص جلجامش في أعماق البحر لينتزعه ويعود به ويطلق عليه أسم " يغدو المسن شابا". وبينما هو يستحم بعد خروجه من البحر شمت الحية رائحة النبات وسرقته وعادت به الى حيث كان، ثم اكلت منه فطرحت جلدها كما تقول الأسطورة. وعندما رأى ذلك أخذ يبكي ويندم حظه. وهكذا فقد الانسان سر الخلود الذي امتلكه ذات مرة.
كما جاءت الأسطورة في ملحمة الإلياذة التي تحكي قصة حرب طروادة. ونظرا لما تتمتع به هذه الملحمة من جمالية السرد الشعري، فقد اعتبرها النقاد أهم الملاحم الشعرية الاغريقية للشاعر ألأعمى هوميروس المشكوك في وجوده وفقا للروايات التاريخية. تقع الملحمة في 26000 بيت من الشعر وهي تقص الفترة الأخيرة من حرب عنيفة بين أغريق أوروبا وأهل طروادة في آسيا. ووفقا للدراسات الأدبية فقد دامت الحرب عشر سنوات، ولكن الالياذة لا تقص كل أحداث تلك الحرب، بل تقتصر على تصوير أحداث السنة الأخيرة. وسبب هذه الحرب هو اختطاف باريس لهيلانه زوجة مينيلاس أحد ملوك الإغريق، بعد أن رآها تستحم مع وصيفاتها، فاحتال حتى اختطفها وعاد بها الى طروادة. بعد ذلك جاءت ملحمة الانياذة للشاعر الروماني فرجيل الذي أكمل بقية أحداث حرب طروادة حيث تمكن المهاجمين اليونانيين من فتح "طروادة" بالحيلة الذكية المعروفة بحصان طروادة الخشبي الذي أصبح فيما بعد رمزا للخديعة. وتقول الملحمة أن هذا الجواد الخشبي الضخم امتلأ بالجنود اليونانيين الذين نجحوا في اختراق حصون المدينة وتمكنوا من القضاء على ملك طروادة ونهبوا المدينة واحرقوها. ويعتبر النقاد أن هذه الحادثة الكبرى هي التي تشكل الوحدة الفنية لملحمة الانياذة، والتي يتفرع عنها احداث فرعية ترتبط معا لتنظيم الاحداث جميعا. وفيها من الأحداث الخارقة والبطولات الأسطورية ما يبعدها عن الواقع الإنساني، بل ان الآلهة – حسب الرواية الانياذية - تشارك في القتال وتتعصب لفريق دون آخر.
في العصر الحديث يلاحظ تأثر كثير من الكتاب والشعراء والرواة بالخصائص الفنية لتلك الملاحم مما جعلهم يميلون الى التفكير بصناعة مادة خيالية ترتبط وتتصل بخطوط الفكرة الرئيسية للمقال او الرواية والقصيدة من أجل إضفاء طابع فني يساهم في إعطاء الموضوع زخما أدبيا ذو أهمية كبيرة مما يسمح للمتلقي بالدخول في دهاليز العمل الأدبي مرورا بخطوط الخيال الأسطوري المنتج سلفا لغاية محددة تتمثل في ابراز فلسفة الكاتب أو الشاعر من خلال مسارات وتفاصيل العمل الأدبي, وإبقاء القارئ في فضاء الخيال الأسطوري لإمتاعه خياليا وبالتالي شد انتباهه لمشاهدة ومتابعة أحداث العملية الأدبية حتى النهاية.
ومن أمثلة الأسطورة الأدبية شعرا في العصر الحديث ما تناقله الرواة وكتبه الشعراء حول المحتوى الطبوغرافي لموقع " مقلع طميه" الذي يبعد نحو 200 كم الى الشمال من محافظة الطائف. وقد أوضحت ذلك في مقال سابق تم نشره في جريدة الرياض بعنوان "توظيف الشعراء لأسطورة طميه في قصائدهم"، اذ تحكي لنا الأسطورة قصة "جبل طميه" ورحيلها الى عشيقها "جبل قطن" شمالا، ثم اعتراضها من قبل جبل آخر يسمى "عكاش" الذي رماها بسهم بدافع الغيرة مما تسبب في كسر ساق طميه قبل وصولها الى الجبل المعشوق في عقلة الصقور البعيدة. ومما تغنى به الشعراء في هذا السياق الأسطوري قولهم:
الهوى قدّامنا شوّق "طميه ** يوم لاح لها قطن والدار خالي
وفي ذلك مثال على أن صناعة القصيدة أمر يتطلب قدرة الشاعر على اختراق فضاء الواقعية والتحليق بعيدا بخياله حتى وصوله الى مجال أسطوري مثير للدهشة والانبهار وغير قابل للتصديق في حال وصول الخيال الى مجال مرتفع جدا. ولذلك ينبغي إيجاد علاقة صلة بين الأسطورة والواقع، كي لا تتجاوز الأسطورة مجال الجاذبية الذي يفهمه العقل البشري ويتواصل معه واقعيا.
من وجهة نظري فان انتاج قدر معين من الأسطورة – حيث يختلط الخيال بالحقيقة – أمر مستحب بل قد يكون مطلبا ملحا باعتباره عنصر جذب تشويقي في القطعة الأدبية، لاسيما وأن الغرض العام من الأدب هو تحقيق الفائدة والمتعة في آن واحد. ولذلك لابد من صناعة بناء اسطوري هيكلي يتناسب مع المنتج الأدبي ولا يبتعد كثيرا عن محور الارتكاز الذي تدور حوله فكرة القصيدة أو القصة والرواية والمقال. وبين أركان هذا البناء الأسطوري يتم زراعة المزيج المكون من تفاصيل الخيال والمشاهد والأفكار المستوحاة من كينونة مادية أو مفهوم ثقافي واقعي لأجل أن يظهر الشكل النهائي للأسطورة قريبا من مجال قدرة العقل على الاقتناع وتتبع الأحداث المتتالية في العمل الأدبي. لذلك فان الهدف من انتاج مادة اسطورية تسبق سلفا توزيع الأفكار العامة في المنتج الأدبي انما يأتي لتأسيس علاقة موائمة بين الكاتب أو الراوي والمتلقي من ناحية وبين العمل الأدبي والمتلقي من ناحية أخرى.
ولفهم النص الأدبي تشير مصادر أدبية الى وجود طرق منهجية محددة مثل المنهج الاجتماعي والثقافي Sociocultural Approach الذي يعنى بدراسة الأثر الأدبي في اطار المحيط الثقافي او الحضاري الذي كتب فيه, أي أن يفهم القارئ المحيط الجاهلي مثلا لكي يفهم الشعر الجاهلي. ولذلك يقال أن خلف كل عمل أدبي فلسفة متأملة في الحياة. ومن خلال المنهج الأنثروبولوجي Anthropological Approach يسعى الباحثون الى اكتشاف تكرر الأنماط Patterns في التفكير الإنساني والتشابه بين الأنماط الثقافية بين الحضارات. وهناك أيضا المنهج الانطباعي Impressive Approach وهو حركة حديثة في الفن والأدب تقول بأن مهمة الفنان الحقيقية هي نقل انطباعات بصره أو عقله الى الجمهور وليس تصوير الواقع الموضوعي. ويستخدم هذا المنهج لوصف الاستجابة الذاتية للعمل الأدبي التي نجدها في المناهج الأخرى. ويتوقف نجاح هذا المنهج على مقدرة القارئ وما يمتلكه من أدوات فنية، أما إذا كان القارئ خلوا من القدرة على التذوق فان تحليله سيكون تحليلا سطحيا.
يبقى أن نقول بأن الأجناس الأدبية عموما تتطلب دمج قدر معين من الخيال مع قدر غير محدد من حقائق موضوعية ثابتة لأجل تحقيق هدف شخصي فلسفي يعكس لنا رؤية فنية قد تخدم الهدف العام من المادة الأدبية وهو الفائدة العلمية التي يمكن البناء عليها مستقبلا لتحقيق اكتشاف جديد أو تطوير وتعديل وتصحيح مفاهيم قائمة في حياة الناس. ولذلك أقول أن انتاج الخيال ليس عيبا اجتماعيا سلبيا ولا مشكلة علمية، بل لابد من انتاج الخيال فكريا ثم ربطه بالواقع عمليا كما حدث في زمن الاختراعات واكتشاف الكواكب والنجوم.
وبالنسبة للقارئ، فلا يكفي أن نقرأ ما كتب عن قصيدة أو ما وصف عن لوحة، اذ لا بد من النظر في الخصائص الفنية للعمل الأدبي ومعرفة مكوناته. كما لا بد من قراءة القصيدة والتفاعل معها. وبهذا ستتضح الصورة ويتحقق الهدف الذي يريده الأدب.