جاء في كتاب ( الغرب وأسباب ثرائه ) : إن الدراسة الواعية لتاريخ البشرية، والحكم على حياة أسلافنا الاقتصادية طبقاً للمعايير الحديثة، تكاد تكون قصة بؤس قاسٍ. لم يقدم المجتمع الإنساني النموذجي حياة رحيمة إلا لعدد قليل من الناس، في حين أن الغالبية العظمي عاشت في فساد سحيق. إن رقة الأدب، والشعر، وقصص البطولة والأسطورة التي تمجد أولئك الذين عاشوا حياة طيبة في حين أنها تغفل أولئك الذين عاشوا في سكون الفقر، تسوقنا إلى أن ننسى البؤس الذي سيطر على الأزمة الغابرة. فقد حولت عصور التعاسة إلى أسطورة، وقد تعيد ذكراها إلى الأذهان عصوراً ذهبية متسمة بالبساطة الرعوية. وهي ليست كذلك.
والانتقال من الفقر إلى الغنى يعنى من الناحية الاجتماعية، تقدم الرفاهية المادية الذي لا تتضمنه بصورة كافية إحصائيات إجمالي الناتج الوطني، أو الدخل الوطني، أو الأجور الحقيقية.
ومرة أخرى فالانتقال من الفقر إلى الثراء هو ابتعاد عن المجاعة والجوع كما تظهرها إحصائيات نقصان آثار سوء التغذية، والأمراض ذات العلاقة بذلك.
ويقترن الفقر بالأمية، والشعوذة، والجهل والعيش في نطاق حياة ضيقة غاية الضيق. والاقتراب إلى الثراء هو اقتراب من تعلم القراءة والكتابة، والتربية وتجارب منوعة.
وحياة الفقر يكون فيها مجرد البقاء مهمة الحياة الأولى، وتكاد تكون الوحيدة، ويصبح فيها الإسكان مكتظاً بصورة تختفى فيها الخصوصية، وتصبح الخيارات أو البدائل محدودة للغاية, والاقتراب من الثراء خطوة نحو التهيؤ لفرص أكبر للاستمتاع بالخصوصية والاختيار الفردي.
وهناك أسباب عديدة تجعل الإحصاءات العادية غير صالحة لأن تظهر حالة الانتقال من الفقر إلى الثراء. ويتطلب تطبيق الإحصاء، بصورة عامة، في حصر الألوف المؤلفة من المنتوجات والخدمات التي يقدمها مجرد اقتصاد عادي بسيط، أن يتم التعبير عنها بوحدات النقد، فالنقود هي المقياس المشترك للكم الاقتصادي، بغض النظر عن تباين المنتوجات والخدمات المراد قياسها.
وتأسيساً على ذلك يتعين أن تبقى وسيلة الإحصاء بلا تغيير ما دام النمو الاقتصادي يعني المزيد من إنتاج السلع والخدمات نفسها ويحمل بين طياته عوامل التغيير في أسلوب حياة المجتمع كله، وإجراء تعديل جذري في السلع والخدمات التي ينتجها ويستهلكها هذا المجتمع,
وحتى مع بداية التوسع الاقتصادي، دخلت تعديلات على ما يستهلكه الناس، وما يؤدونه من أعمال وكذلك في أسلوب ومنهج الحياة كلها.
وهناك مشكلة إحصائية أكثر تطرفاً تثور نتيجة لحقيقة مفادها أن ما يؤديه القطاع الأسري من عمل لا تقدر له قيمة نقدية ما لم ينتج سلعة ملموسة (مثل منتوجات المزرعة). ومن ثم فإن إحصائيات القرن الماضي لا تعتبر إجمالي ما يُدفع للمرأة مقابل عملها زيادة في إجمالي الناتج الوطني إلا عندما تنتقل من القطاع الأسري، برغم أن بعضهم يرى ذلك تدهوراً في كيف الحياة.
وثمة صعوبة أخرى تثور في مجال الإحصائيات الشاملة: هناك سلع، وخدمات اقتصادية تصبح لها قيمة نقدية بأسعار تحددها الصفقات التي تعقد في السوق. غير أن سلعاً وخدمات أخرى يضفى عليها القيمة النقدية التعليمات والأوامر. وليس هناك من سبب يدعو لأن يتوقع المرء أن تترتب على الطريقتين إضافات متساوية للرفاهية المادية، نتيجة لما يسهم به كلا النوعين من الصفقات.
إن قصة التحرك من الفقر إلى الغنى تقدم مقداراً كافياً من الأحاجي، والمفاجآت، والعروض، والانتصارات والمآسي التي تجعلها جديرة بأن تُسرد من جديد لذاتها.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية