مباني النزلة لم تتغير .. ويصعب أن تتغير لأنها قامت بشكل عشوائي .. رغم أن العشوائية التي تسكن الكثير من أحياء جدة يمتد عمرها إلى سنوات طويلة ، إلا أن التاريخ الذي يحمله هذا الحي البدائي الجميل الذي يحاط بقصر خزام وقصور ومدائن الفهد لجدير بأن تسطره رواية.. بل روايات .. بقعة ظلت مهملة لم يصلها التطوير منذ أكثر من مائة عام تشكلت فيه بيوتها على أيدي ساكنيها الأوائل بحس فني مرهف أساسه الرغبة في التقارب والتعايش بالتصاق روحي جميل .. إن بيوت النزلة اليوم بعد أن هجرها ساكنوها الأوائل إلا قليلاً منهم لا زالت شاهدة على تلك القيمة الفريدة التي تفتقد إليها أحياء اليوم .
ويتجاوز عدد الأحياء العشوائية في جدة 54 حياً، وقد أعدت إمارة منطقة مكة المكرمة خطة لعلاج مشكلات هذه الأحياء بإزالتها من خلال ( لائحة تطوير المناطق العشوائية في منطقة مكة المكرمة)، وكانت البداية بمشروع خزام الذي يضم أربعة أحياء عشوائية، هي السبيل والنزلة اليمانية وجزء من حي البلد والقريات وتغطي مجتمعة 55% من المساحة الإجمالية والتي سيتم تطويرها وتجديدها وفق المخطط العام الجاري عمله .
أين الوقت؟.. أشعر برغبة شديدة في كتابة رواية عن هذه النزلة التي ساعدتها الظروف لتظل كما هي قبل أن يداهمها التغيير .. في بيوتها وأزقتها قصصاً عظيمة لأناس جمعتهم قيم جميلة .
أكثر من ٤٥ عاماً اختزلتها جولة مع عبدالمجيد مرزوق العداء الدولي والجناح السريع لفريق الحي (الصخرة) والاتحاد.. عبد المجيد لم تبقى لياقته البدنية بدا يعاني من آلام في الركبة ومع ذلك تحامل على نفسه مصراً على مرافقتي في تلك الجولة .
ذهبنا إلى منزلنا القديم الذي حمل ذكريات الطفولة والصبا .. طافت بي الذكريات الأثيرة وأول ما تهادى إلى فكري - من ذلك الزمن الجميل - صوت دجاج أخي علي الذي يكبرني بخمسة أعوام .. تذكرت ترقبه للدجاج حين تبيض وأخذه للبيض حاراً طازجاً .. كل شيء كان طازجاً في ذلك الزمن الفول والخبز والتميس .. حتى اللبن يدور به البائعون ويمنحوه لنا بالنقد أو بالأجل .. وما أكثر التعامل بالأجل!
ها هو بيتنا يطل في انسجام عجيب بين بيوت كثيرة متشابكة فعلى يمينه يأتي بيت عّم عاطي الشيخ على يساره بيت السيد سالم البرنحي ومن خلفه منزل البخاري.. يومها كان نطاق الجيرة واسعاً يشمل حتى عاشر جار من كل الاتجاهات .. البيوت ظلت كما هي .. بدت كأنها صغرت كثيراً .. كنّا نعدها في ذلك الزمن قصوراً .. ندخلها (بدون إحم ولا دستور).. ولَم يكن ذلك من سوء الأدب بل التآلف الذي جمع قلوبنا وفتح بيوتنا فأضحت كالدكاكين .. نقصدها كلما عطشنا أو جعنا .. نجد فيها ما نجده في بيوتنا .. لا نحتاج إلى تصريح سوى أنك ابن النزلة.
قال لي أبو غازي عبد المجيد مرزوق: هنا كنّا نلعب الكرة وتخرج الحارة كلها لمشاهدتنا .. عادت بي الذكريات .. نعم هنا أمام مركاز العمدة الشيخ بنية في هذه المساحة الصغيرة تأسس فريق (الصخرة) أسسه ابن العمدة الأكبر سعود .. الصخرة الفريق الذي لا ينسى بصولاته وجولاته .. كنّا نقهر جميع فرق الأحياء التي ننازلها .. وتجاوزنا ذلك فهزمنا أشبال الأهلي .. كانوا يشبهوننا بالبرازيل ويلقبوننا بأسماء لاعبيه زيكو وريفالدو ...
بيت خالي محمد سالم العميري الذي أطاح بجزء منه السيل الشهير قبل أكثر من ٤٥ عاماً ما زالت آثار ترميمه باقية تذكرنا بذلك الحدث العظيم الذي جرف السيارات القليلة التي كانت تسير في الطريق في ذلك الوقت.
قصصاً كثيرة استعدتها وأن أتأمل البيوت والدروب لأناس جميلين من ذلك الزمن الجميل.
نعم ، إن النزلة تستحق رواية .. لا أدري لماذا تأخرت في كتابتها ؟
ربما لأني لا أزورها كثيراً ..
عذراً حبيبتي ..
التعليقات 2
2 pings
زائر
05/05/2018 في 1:32 م[3] رابط التعليق
منور يا دكتور محمد
(0)
(0)
زائر
05/05/2018 في 11:01 م[3] رابط التعليق
النور بطلتك أخي العزيز.
(0)
(0)