منذ عام 1985م صرفت 150 شركة مبلغا هائلا قدره بليون دولار على الذكاء الاصطناعي، وبشكل رئيس على الأنظمة الخبيرة. ولكن المشكلة في هذه الأنظمة هي أنها تفتقر إلى القدرة على التمييز أو الإدراك السليم. فمهما كان عدد القواعد التي تمتلكها فإنها تقوم بأخطاء فاضحة، لأنها تفتقر حتى إلى الحدس لدى طفل بأحوال العالم. ويمكن اختصار سبب انهيار أنظمة الخبرة في السوق التجارية بعبارة واحدة شائعة ((من الأسهل أن تحاكي عالم جيولوجيا من أن تحاكي طفلا في الخامسة من عمره))، أي أن النظام الخبير يمكنه معالجة الحقائق اللازمة لعمل الجيولوجيا بشكل جيد، ولكنه لا يستطيع محاكاة الإدراك السليم والتمييز لطفل في الخامسة فقط من عمره.
إن المشكلة في أجهزة الكمبيوتر هي أنها في الوقت الحالي من دون ملحقاتها الغامضة والمدهشة، ليست أكثر من آلات جمع رائعة أو ((حكماء بلهاء))، وبينما يمكن تعديل آلات الجمع هذه لتصبح معالجة للنصوص فإنها في صميمها لا تزال آلات جمع. فهي تستطيع التعامل مع كميات هائلة من البيانات بسرعة أكثر بملايين المرات من سرعة الإنسان، إلا أنها لا تفهم ما تفعله، وليس لديها أي تفكير مستقل، ولا تستطيع برمجة نفسها أيضا.
إن إحدى المشاكل الرئيسية للفترة من عام 2020 وحتى 2050 هي بناء أنظمة ذكية تتمتع بالإدراك السليم أو القدرة على التمييز، مثل هذا الإدراك موجود في أدمغتنا على مستوى اللاوعي، مثل جبل جليد مختف تحت الأمواج إلى حد أننا لا نجشم أنفسنا عناء التفكير في كيفية استخدامه في حياتنا اليومية. ولا يحتل تفكيرنا الواعي إلا جزءا صغيرا من مجمل تفكيرنا. فمعظم تفكيرنا إنما هو في الواقع تفكير لاواعي، بما في ذلك تلك القدرة على التمييز.
ومن المفارقات أن أدمغتنا لم تتطور فيها الدوائر العصبية البسيطة جدا اللازمة لإجراء الحساب، فالقدرة على ضرب أعداد مؤلفة من خمسة أرقام، والذي يمكن لآلة حاسبة يدوية أن تقوم به من دون جهد، لم تكن مفيدة في الإفلات من نمر جائع حاد الأسنان منذ مئات الآلاف من السنين.
ومن العجيب أن الحساب لا يتطلب إلا قليلا من الدوائر العصبية، إلا أن عدم الحاجة إليه أثناء تطورنا لم يدفع إلى تطويرها لدينا أبدا. لقد تطورت أدمغتنا بدلا من ذلك إلى جهاز عقلي راق يمكننا من التمييز والإدراك السليم دون التفكير به، مما مكننا من البقاء على قيد الحياة وسط عالم معاد.
ومن هنا توقع العلماء أن يبدأ الذكاء الاصطناعي الحقيقي بالانتشار في شبكة الانترنت بعد العام 2020. إن الخطوة التالية بعد الوسطاء الأذكياء، هي نوع من الذكاء الاصطناعي يدعى أسلوب اكتساب الخبرة بالمحاولة والخطأ ، الذي يحاول أن يرمز المنطق والذكاء بمجموعة من القواعد. ويمكننا هذا الأسلوب بصورة المثالية من التكلم مع طبيب أو محام أو فني على الكمبيوتر، يمكنه أن يجيب عن أسئلة فنية مفصلة حول التشخيص والعلاج. إن أحد الفروع الأولى لاكتساب الخبرة بالمحاولة والخطأ، التي تجاوزت فعلا قدرات البشر، هي آلة لعب الشطرنج، لأنها مؤسسة على قواعد بسيطة محددة بدقة. ويمكن تحليل ملايين الحركات في الشطرنج بسرعة الضوء، مما يجعل أكثر البرامج تقدما قادرا على التغلب على كل اللاعبين، ما عدا أعظم السادة الكبار في اللعبة.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية