نظم الشعراء منذ قديم الأزمنة قصائد وصفوا فيها القادة والفرسان والوقائع والأماكن التي نشأوا فيها او الاطلال التي مروا بها او توقفوا عندها اثناء ترحالهم وتنقلاتهم. وخلال هذه الأحداث والرحلات الطويلة كان الناس يتبادلون تلك القصائد ويرددونها في اسفارهم ومجالسهم. ومع مرور الزمن يكتشف الانسان ان القصائد التي كان يحتفظ بها في ذاكرته لم تعد موجودة، ولا يستطيع ان يتذكر منها سوى ابيات قليلة. فذاكرة الانسان تشبه الى حد ما نظام الذاكرة في الأجهزة الحديثة، بمعنى انه كلما امتلأت بالبيانات الجديدة كلما اضمحلت منها البيانات القديمة حيث يحل الجديد مكان القديم.
غير ان بعضا من ابيات الشعر بقيت في الذاكرة رغم مرور عشرات السنين وذلك بسبب قوتها صياغتها والمعنى والمفردة. وايضا لكونها تشتمل على مثل أو حكمة او تجربة أو قول سديد مما جعلها تحظى بإعجاب شديد عند المتلقين، فترددت كثيرا على السنتهم وترسخت في اذهانهم.
ومن ذلك الإنتاج الأدبي تبرز قصائد الأمير خالد الفيصل وهو أحد الشعراء المتمكنين الذين أبدعوا في نظم الشعر العربي حتى استطاع ان يصل بقصائده الى قمة الابداع، اذ تميزت قصائده بأسلوب أضاف للمعنى جمالا مثيرا للعاطفة، وللصورة الشاعرية بريقا خاطفا للأبصار، وللمفردة جزالة ملفتة للانتباه. ومما جاء في احدى قصائده قوله:
من بادي الوقت هذا طبع الأيام
عذبات الأيام ما تمدي لياليها
حلو الليالي تواري مثل الاحلامي
مخطور عني عجاج الوقت يخفيها
اسري مع الهاجس اللي ما بعد نامي
وأصور الماضي لنفسي واسليها
ربما يعود السبب في انبهار الناس واعجابهم بقصائد خالد الفيصل الى كونها تعتمد على رموز معينة من الموروث الثقافي الذي يعد منطلقا فكريا لها، وأيضا بفضل ما يمتلكه من موهبة إبداعية.
ومن ابيات الشعر العربي الفصيح قول الخليفة العباسي المستنجد بالله وتغنى بها ناظم الغزالي:
عيرتني بالشيب وهو وقار
ليتها عيرت بما هو عار
ان تكن شابت الذوائب مني
فالليالي تزينها الأقمار
كما ان كثير من الناس لا زالوا يتذكرون قول مجنون ليلى:
أليس وعدتني يا قلب أني
اذا ما تبت عن ليلى تتوبُ
فها أنا تائب عن حب ليلى
فمالك كلما ذُكِرت تذوبُ
ومما جاء في دواوين الأدب العربي قول الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور حيث تتجلى الحكمة وسداد الرأي:
اذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فان فساد الرأي أن تترددا
ومن الأبيات التي بقيت في ذاكرة الناس قول الامام الشافعي رحمه الله:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجو الزمان بغير جرم
ولو نطق الزمان بنا هجانا
وهذه الابيات مشهورة ومذكورة في كتاب " ديوان الشافعي ص 106 والمراد به ان الزمان في نفسه ليس به عيب, انما مرد العيب والذم لأفعال الناس واخلاقهم.
وكذلك نجد البيت الذي لا يزال يتردد صداه ويحفظه الناس للشاعر بديوي الوقداني:
أيامنا والليالي كم نعاتبها
شبنا وشابت وعفنا بعض الأحوالي
ومن لا يعرف أبرز شعراء العرب في العصر الجاهلي وأحد شعراء المعلقات عنترة بن شداد العبسي الذي اشتهر بشعر الفروسية وغزله العفيف بعبله. ومما يتذكره الناس قوله:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
ويقول الشاعر المعروف محمد السديري في ابيات له تميزت وبقيت في اذهان الناس.
يقول من عدى على راس عالي
رجم طويل يدهله كل قرناس
في راس مرجوم عسير المنالى
يشتاق له مندك بالقلب هوجاس
حتى قال:
لا خاب ظنك بالرفيق الموالى
مالك مشاريه على باقي الناس
حتى قال:
المستريح اللى من العقل خالى
ما هو ولجات الهواجيس غطاس
ما هو بمثلى مشكلاته اجلالى
عجزت اسجلهن بحبر وقرطاس
حملى ثقيل وشلت حملى لحالى
ونصبر على ضيم الليالى والاتعاس
ومن الصور الأدبية الجميلة التي قدمها لنا فحول الشعراء، ما قاله الشاعر احمد شوقي
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
عيني في لغة الهوى عيناك
ومما تردد كثيرا على السنة الناس بيت من قصيدة للشاعر نجر بن كديميس الذيابي، مما يوحي بقوة هذه الابيات وملامستها لواقع الحياة. وبالتالي وجدت لها صدى كبيرا في نفوس الناس وعقولهم. ومما قاله:
أثر العقول بحكمة الرب تنزيل
كلٍ عطاه الرب ما يشتهي له
هذا بيت من قصيدة يخاطب فيها الشاعر بعضا من رفاقه في وصفه لمن تنقصهم الخبرة والتجربة في ابداء الرأي والمشورة. فهو لا يعاتب هنا أولئك الرجال وانما يؤمن ايمانا كاملا بان الله سبحانه هو من يهب العقول ويهدي من يشاء الى سواء السبيل. فمن الناس من يتبع الحق ومنهم من يتبع نفسه هواها فيظل طريق الحكمة والصواب.