قصتنا حدثت من قبل...!
وقد تحدث فيما بعد...
لكنها حدثت هذه المرة لدرس قيم.. يستمر أثره حتى الممات، وربما أبعد من ذلك!
عندما طلبت مني شقيقتي الصغرى جهاز قياس الضغط لأبي، اعتقدت أنها مجرد وعكة بسيطة... فقد كانت والدتي تعاني من أمراض خطيرة منذ أكثر من سنتين، واعتدنا القلق عليها دوما!
أما والدي العزيز، فقد كان بالكاد يعاني من انخفاض في السكر في أندر المواقف. لكن عندما ذهبت لرؤيته في تلك المرة، أدركت أن هنالك خطباَ ما... ورغم إصراره على أنه تحسن بعد فترة، إلا أنني أخذته إلى المشفى الصغير بقربنا، والذي نصحنا على إثر ذلك بنقله إلى مركز أكبر! بقينا نُطمئن أنفسنا أن كل شيء بخير وأننا سنعود للمنزل ونتناول الحلوى. لكن ليس هذا ما حصل...
أخبرنا الطبيب المقيم أن أبي أصيب بجلطة، وحالته تلتزم بقائه في قسم العناية المركزة. كان الخبر صدمة بالنسبة لنا جميعا. لكن أبي بدا لنا بحالة جيدة! لذا فقد تمنينا له الأفضل وغادرته مع وعد لزيارته غدا ولم أتوقع أنها ستكون أسرع مما أتصور.
تدهورت حالة والدي في الليل! وتم التواصل معي لإقناعه بالانتقال إلى مستشفى متخصص بأمراض القلب! أتذكر جيدا ما حصل، و كيف أن ساقيً تحولتا حرفيا إلى كتلة من العجين! لم أكن أستطيع الوقوف، ناهيك عن السير...
تم نقله و ظللت معه حتى تم طردي، وكلما غادرت، أعادوا الاتصال بي مجددا لإعلامي بسوء حالته، كنت في صراع مرهق بين والدتي المريضة بالورم والتي كانت بحاجة لعنايتي في جلسات الغسيل الكلوي، و بين والدي الذي تتداعى حالته ويحتاجني بقربه...
في اليوم الثاني له في قسم عناية القلب، كنت أودعه لأذهب بأمي إلى الجلسة. وضعوا له يومها جهاز أكسجين عملاق يغطي اغلب وجهه و بالكاد يستطيع التحدث منه. لكنني استطعت سماع كلماته وهو يهتف بألم:
-"هل ستتركينني؟ هل ستتركينني هكذا؟"
كيف كان رنين الخوف في صوته مدويا! وكيف ارتجفت أحرفه من القلق! بل كيف لم أدرك ذلك وأنا أجيبه:
-"اقسم لك يا أبي لو أن الأمر بيدي لظللت معك طوال الوقت! لكن يجب أن أذهب بأمي إلى المشفى ."
فهز رأسه بيأس وأشار باقتناع ضعيف لأذهب. غادرت وصدى خطواتي يتردد خلفي دون علمي أن هذه الكلمات التي سمعتها للتو، هي كلماته الأخيرة لي.
ساءت حالة والدي لدرجة اضطروا فيها أن يخدروه تماما! حتى يتمكنوا من وضع جهاز تنفس يمتد إلى حنجرته. لم يعد إلى وعيه... ولم أغادر بعدها... ظللت أختبئ في دورة المياه المصاحبة للغرفة كلما مر حارس أمن يفتش عن المخالفين! و اخترعت مئات القصص لأفر منهم كلما أمسكوا بي! حتى سخر لي الله سبحانه أخيرا ممرضا منحني الأذن لأبقى!
ظللت هناك أستمع لأصوات الرياح خلف النوافذ الحديدية. اقرأ بلهفة ما بين كلمات الأطباء الغير مفهومة. أتلقى زمجرة و تأففاَ من كل ممرضة أطلب منها التعامل برفق مع والدي. لكنهم أخبروني أن لا فائدة لأنه لن يستمر...
كان ذلك في منتهى القسوة..! لكنني ظللت في مكاني، حتى أمروني بالمغادرة خوفا من العدوى.
بقيت لوحدي في بهو المستشفى الفارغ إلا من حراس الأمن وبعض من الأفراد. ما زلت على الكرسي أنتظر أي فرصة لأصعد إليه! وأحارب الشعور بالضياع و الخوف مما سيحدث! وفجأة، برحمة من الله عز وجل في جوف الليل، أشفق أحد الحراس على وضعي وسمح لي بالصعود لرؤيته! أسرعت إليه! ولسبب ما رغم أنه لا يراني إلا أنني نزعت نقابي وابتسمت في وجهه... وكأنني أردت أن أطمئنه بوجودي، وأن كل ما سيتبع هذه اللحظة سيكون بخير. ثم... وكأنما سكن جسدي كائن آخر! بدأتُ ألقنُ والدي الشهادتين! مرة و مرتين و خمس! و كنت أرى لسانه يتحرك من تحت الأنبوب. وبعدها أسدلت سواد النقاب على وجهي مجددا وغادرت.
في ذلك اليوم، وبعد صلاة الجمعة، توفي والدي الحبيب! أزلت عنه الإبر والخيوط والأنبوب، وغسلته وقبلت جبهته... ثم ودعته...
هل علم بوجودي قربه؟
هل رأى ابتسامتي؟
هل أراد أن يهمس لي بكلمات أخيرة؟
لم أعلم، ولن أعلم! لكنني أؤمن أن رحمة ربي غمرته، وهو في مكان أفضل! وأتمنى يوما ما بلطف الله عز وجل أن نلتقي! وسيخبرني بما أراد أن أسمعه!
وحتى ذلك اليوم، سأرى في أحلامي ابتسامته الدافئة التي بادل بها ابتسامتي. هي ما ستبقى دائما معي، حتى الممات. وربما أبعد من ذلك.
(لا ندرك عمق الحب في قلوبنا إلا عند سكرات الوداع فقط ~ جورج اليوت)
رحمك الله يا والدي وأسكنك فسيح جناته.
تمت بحمد الله وتوفيقه
مروة بخاري
@marwaoaishahr