اللغة أداة قبل كل شيء، فهي ليست قيمة، وإنما تنطوي على قيمة، وامتلاك لغة مثل امتلاك نقود ينطوي على إمكان توسيع مجال الفعل لدى الأفراد، ومن ثم ينطوي على إمكان إغنائهم. ومع ذلك فإن التحقق من المعايير التي تحدِّد قيمة لغة معينة ليس مهمة سهلة.
إن كل دارس لمسألة قيمة السلع يواجهه معنى اقتصادي مزدوج لهذا المفهوم، أي قيمة الشيء الاستعمالية وقيمته التبادلية. وعلماء الاقتصاد قد أثارت اهتمامهم طويلاً حقيقة وجود فرق ملحوظ بين القيمتين، حيث إن الأشياء ذات القيمة الاستعمالية الكبيرة كالماء مثلاً، يكون لها قيمة تبادلية ضئيلة بينما الأشياء ذات القيمة الاستعمالية الضئيلة كالأحجار الكريمة تكون ذات قيمة تبادلية عالية. وبسبب هذه العلاقة يكون من الصعب أن نستنتج بسهولة القيمة التبادلية من القيمة الاستعمالية.
وفضلاً عن ذلك فإن محاولات ربط هاتين القيمتين المختلفتين تماماً بشكل واضح إحداهما بالأخرى قد حجبت لزمن طويل حقيقة أنهما لا تؤلفان في الواقع فئتين محددتين بشكل قاطع، فالأطعمة – مثلاً، تستعمل أساساً لإشباع حاجات أساسية، ولكنها في بعض المجتمعات تكون لها خصائص الأشياء القيمة الغريبة.
والواقع أن هذه العلاقة المتفاوتة بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية لا يمكن تفسيرها من دون أدوات مفاهيمية أكثر دقة، ويمكننا هنا أن نأخذ إحدى الأفكار الأساسية للاقتصاد الجزئي، وهي فكرة المنفعة الهامشية.
وهذه الفكرة تقول: إن قيمة السلعة تتحدد بمنفعتها الدنيا للمستهلكين الرشداء، أي هؤلاء الذين تكون سلعة معينة بالنسبة لهم ذات قيمة عظمى، ولكنهم لا يدفعون ثمناً لهذه السلعة أكثر مما يدفع أولئك الذين تكون السلعة بالنسبة لهم ذات قيمة دنيا، وهذا يفسِّر سبب انخفاض أسعار المواد الغذائية الأساسية في العادة انخفاضاً شديداً لدرجة أن يشتريها حتى هؤلاء الذين تكون هذه المواد بالنسبة لهم ذات قيمة، بينما في فترات نقص هذه المواد فإنها يمكن أن تستبدل بها أشياء عالية القيمة.
لقد أصبح ينظر للغات باعتبارها واسطة أو أداة إنتاج وإن بدت شبه مستقرة داخل إطار الجماعة اللغوية المعنية، بالنظر إلى أنها ملكية مشتركة للكل. على أن المقارنة بين الجماعات تكشف عن الوزن الاقتصادي المحدد للغات المختلفة.
وتمثل المعاجم حالة خاصة؛ فهي تتطلب استثمارات أكثر ضخامة من معظم الكتب، ولكنها تعِد أيضاً بدخل أكبر وأكثر بقاء. واليوم أصبح إنجاز المعاجم صناعة كبيرة.
ومما لا شك فيه أن من الخطأ الافتراض بأن المعجميين العظماء قد بدأوا عملهم أملاً في الكسب المادي، بل على العكس كانوا يكدحون في ظل تهديد مستمر بالإفلاس المالي.
إن المعاجم هي الحجر الأساس للتهذيب اللغوي وبهذا المعنى فهي عبارة عن استثمار، ما دامت تزود اللغة بالخاصية التي وصفها كلوس باختصار باعتبارها القوة الوظيفية للغات الثقافة الحديثة.
وما قيل عن المعاجم يمكن قوله أيضاً بمعنى أوسع عن الترجمة. وحيثما اعتبرت اللغات ثروات اجتماعية، فإن الترجمة يجب أن تفهم باعتبارها استثماراً طويل الأمد من أجل الحفاظ على قيمتها أو زيادتها.
وحيث إن كل ترجمة إلى لغة تضيف قيمة إليها، فإنه يمكن النظر إلى مجمل كل الترجمات إلى لغة معينة باعتباره مؤشراً آخر على قيمتها.
وفضلاً عن ذلك فإن حركة الترجمة إلى لغة معينة تكشف عن مقدار العمل النوعي الذي يمكن لمجتمع أن يخصّصه لهذا النوع من المهن.
إذن يترتب على الاعتبارات السابقة المتصلة بالمعاجم والترجمة أن قيمة لغة معينة تتحدد في إطار قيمتها أو علاقتها بقيمة اللغات الأخرى. فاللغات – بتعبير آخر – لها قيمة سوقية. وهي القيمة التبادلية التي تملكها لغة معينة بوصفها سلعة أو مؤشراً للإلمام بها من قبل جماعة على اتصال بها مقارنة بلغات أخرى.
إن النظر إلى اللغات بوصفها سلعاً أمر مسوغ بما أن اكتسابها بوصفها لغات أجنبية يتطلب نفقات في العادة على المستويين الفردي والاجتماعي كليهما.
ويمكننا أن نحصل أيضاً على مؤشر آخر على القيمة الاقتصادية للغة معينة، وهو عدد المهنيين الذين تتيح لهم مجالاً للرِّزق.
والخاصية الأخرى لسلعة اللغة هي أن قيمتها تزداد مع كل متحدث يكتسبها أو تكتسبه، وهذا يشبه تأثير كرة الثلج فيما يتعلق بالمخزون السلعي الرخيص الذي يزداد سعره، لأنه يكتسب قيمة، والذي يكتسب قيمة، لأنه يزداد سعره، فكلما تعلم الناس لغة معينة أصبحت اللغة مفيدة، وكلما كانت اللغة مفيدة رغب الناس في تعلّمها.
ومن ثم، فإن قيمة لغة معينة يحدِّدها عدد من العوامل التي يسهم كل منها لا في جعل اللغة وسيلة فحسب بل في جعلها أيضاً عنصراً من عناصر العمليات الاقتصادية.
وقد بيّن فلوريان كولماس في كتابه: "اللغة والاقتصاد" أهم الجوانب الاقتصادية للغة، بحيث تشمل:
(1) المجال الاتصالي للغة.
- مستوى تطور الإمكان الوظيفي للغة باعتبارها أداة إنتاج مجتمعية.
- المقدار الكلي للاستثمار الموضوع في اللغة، حيث يمكن للتدوين المعجمي وكثافة شبكة المعاجم ثنائية اللغة أن تربط اللغة باللغات الأخرى والترجمة من اللغة وإليها.
- الطلب على اللغة بوصفها سلعة في السوق الدولية للغات الأجنبية وحجم الصناعة التي تمدّه.
- رصيد الحساب الجاري للغة بالنسبة لجماعتها اللغوية.
ختاماً أقول إن المعرفة في الوقت الراهن تتقدم ببطء وما إن نمتلك المزيد من المعرفة عن الكيفية التي تتفاعل بها اللغة مع الاقتصاد، فسوف نكون أكثر قدرة على الاقتصاد في الكلام.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية