يعتبر الأمن من أهم مطالب الحياة، بل لا تتحقق أهم مطالبها إلا بتوفره، حيث يعتبر ضرورة لكل جهد بشري، فردي أو جماعي، لتحقيق المصالح العامة للجميع .
والتاريخ الإنساني يدل على أن تحقيق الأمن للأفراد والجماعات الإنسانية، كان غاية بعيدة المنال في فترات طويلة من التاريخ، وأن الأمن لم ينبسط على الناس في المعمورة إلا خلال فترات قليلة.
فالحرب والقتال بين البشر، ظاهرة اجتماعية لم تختف حتى الآن، وكان تغير الدول والإمبراطوريات قديماً ونشأتها وضعفها وانتهاؤها، مرتبطاً في الغالب بالحروب ونتائجها.
إن الأمن معنى شامل في حياة الإنسان، ولا يتوفر الأمن للإنسان بمجرد ضمان أمنه على حياته فحسب، فهو كذلك يحتاج إلى الأمن على عقيدته التي يؤمن بها وعلى هويته الفكرية والثقافية وعلى موارد حياته المادية.
يقول د. عبدالله عبدالمحسن التركي في كتابه "الأمن في حياة الناس" إن تكامل عناصر الأمن في مجتمع معين، هو البداية الحقيقية للمستقبل الأفضل، وتوفر عناصر الأمن الديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وبقاؤه في المجتمع، ضمان له لاستعادة أمنه الخارجي حتى لو فقده بصفة مؤقتة .
إن كلمة الأمن وما يشتق منها وردت في القرآن الكريم في مواضع عديدة، وذلك بمعنى السلامة والاطمئنان النفسي وانتفاء الخوف على حياة الإنسان أو على ما تقوم به حياته من مصالح وأهداف وأسباب ووسائل، وما يشمل أمن الإنسان الفرد وأمن المجتمع . يقول تعالى: ]الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[ (قريش:4)، ويقول عز وجل:]وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [ (البقرة: 125)، ويقول سبحانه:]وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ..[ (النحل: 112).
فالأمن على نفس الإنسان وعلى سلامة بدنه من العلل والأمن على الرزق، هو الأمن الشامل الذي أوجز الإحاطة به وتعريفه حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا" رواه البخاري – رحمه الله – في الأدب المفرد .
إن الفطرة الإنسانية تقتضي الاجتماع، ومتى وجد جماعة من الناس، تعين أن تقوم فيهم سلطة حاكمة ترى مصالحهم، وتعمل من أجل بقائهم وتقدمهم وتحجز بين أفرادهم حين تختلف المصالح.
فالمسلم يحتاج في إقامة دينه وأداء شعائره والأمن على نفسه وعرضه وماله إلى مجتمع آمن، حتى ولو كان يعيش في بلد ومجتمع غير مسلم. فالأمن من أول مطالب الإنسان في حياته.
إذ يحتاج الفرد في حياته إلى الأمن على نفسه ودينه وعرضه وماله.
لذا، جعلت الشريعة السمحة الحفاظ على هذه الضروريات من أهم مقاصدها.
فأنزلت الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال، منزلة الضرورة التي لا تستقيم الحياة إلا بها.
وجعلت حاجات الإنسان التي تيسِّر حياته في مرتبة تالية (مرتبة الحاجيات) .
وأفسحت مجالاً تكتمل به حياة الإنسان، فيما عدته من الكماليات والتحسينات .
فلا شك، أن أمن الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا إذا توافرت له ضرورات الحياة في أي مجتمع يعيش فيه.
إن الأمن الفردي أي أمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه، ضد أي اعتداء يقع عليه من غيره، مكفول عن طريق تطبيق الأحكام الشرعية، التي تحمي الأنفس والأعراض والأموال.
وولي الأمر مسؤول عن إقامة حدود الله حماية للأفراد، ومنعاً لانتشار الفساد وشيوع المنكر في المجتمع.
إن المجتمع المسلم محتاج للأمن الاجتماعي، بحيث يكون المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، مصداقاً لحديث رسول الله علية الصلاة السلام "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" متفق عليه.
وفي مجال الأمن الاقتصادي، نجد الإسلام يحض على العمل ويدعو إلى إتقانه، حتى يصبح عمل المسلم متميزاً عن عمل غيره. يقول e "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" رواه البيهقي في الشعب.
وقد وجه الإسلام إلى العدل في التوزيع، فلا يحرم عاجز وضعيف من ضرورات حياته وحاجاته الأساسية، وكذا أن يكون الاستهلاك قصداً، بحيث لا إسراف ولا تبذير وأن تعطي الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، وأن يوفر المجتمع مقومات كفايته من أجل أمن اقتصادي حقيقي واكتفاء ذاتي واستقرار اقتصادي.
والأمن الثقافي مطلب لأفراد المجتمع المسلم بحيث يعيش الناس في بلادهم آمنين على أصالتهم وعلى ثقافتهم المستمدة من دينهم. فلا بد من تحصين أفراد المجتمع ضد الملوثات الفكرية والغزو الثقافي والتغريب المفاهيمي .
ومن دلائل روعة الإسلام، أن الأمن لم يقتصر على المسلمين، بل غير المسلمين كان لهم نصيبهم من الأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
ولم يقتصر الأمن في الإسلام على حماية من يعيش في مجتمع مسلم، في حياته الدائمة والمستقرة بين أسرته وفي مقر عمله الذي يتكسب منه وهي حالة الذميين .
وإنما تجاوزت ذلك إلى حماية المخالف في الدين، الذي يحضر إلى بلاد المسلمين للعمل أو التجارة أو لشأن من الشؤون المباحة، بإذن من ولي الأمر، ويكون حضوره مؤقتاً بانتهاء العمل، أو قضاء المصلحة التي يبتغيها .
هذا هو الأمن على الأنفس والأبدان والأموال والأعراض، حين يتعامل المسلم مع غيره في شؤون الحياة وحتى حين يعاشر المسلم زوجته الكتابية التي تصبح من أقرب الناس إليه .
ولقد أدرك الملك المؤسس عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - ، منذ توحيد المملكة على يده، أن الأمن من أهم مطالب الإنسان.
فقد جاء في إحدى خطبه، ما يجعل هذا المعنى واضحاً جلياً، حيث يقول:
"إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من نزغات الشيطان، والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه البلاد، فإني لا أراعي في هذا الباب صغيراً ولا كبيراً، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره".
وقد أشاد كثير من الباحثين حتى من غير المسلمين بنجاح الملك المؤسس – رحمه الله – في حفظ أمن المملكة على اتساع أطرافها وتعدد مناطقها.
كما أشادت بالأمن في المملكة العربية السعودية كثير من المؤتمرات العلمية والأمنية التي انعقدت على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
وكان لجهد الملوك من أبناء الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله، أثره الكبير في استقرار الأمن، وتقدم البلاد في جميع المجالات، فقد تابعوا جميعاً رسالة تحقيق الأمن والاستقرار بكل عناية واهتمام.
وقد شهد المؤتمر الثاني والثمانون لرؤساء الشرطة في العالم، والذي عقد بمدينة ميامي بأمريكا بأن المملكة العربية السعودية هي أقل دول العالم جريمة وأكثرها أمناً.
فالأمن في مفهوم الدولة السعودية يشمل الفرد والمجتمع، والحماية من المبادئ والتيارات الهدامة وأصحاب البدع والأهواء .
يقول الملك عبدالعزيز – رحمه الله – في مدينة الطائف عام 1351هـ : أحذركم من أمرين: "الإلحاد في الدين والخروج عن الإسلام في هذه البلاد المقدسة".
والأمر الثاني، السفهاء الذين يسول لهم الشيطان بعض الأمور المخلة بأمن البلاد وراحتها …"
يتضح في الدولة السعودية مفهوم الأمن بأوسع معانيه، أمن الفرد على نفسه وعرضه وماله، وأمن المجتمع على دينه وقيمه الخلقية والاجتماعية، وأمن المسلمين حين يحتاجون إلى المساعدة حتى في خارج المملكة العربية السعودية.
وللأسف، فإنه في عصر حقوق الإنسان، الذي تعترف فيه كثير من المجتمعات بكرامته وحقه في الحياة وفي التكافل الاجتماعي والمشاركة العامة، تنتهك الأعراض وتسلب الأموال، ويشتد ساعد عصابات الإجرام، وتقف كثير من الحكومات عاجزة عن التصدي للفساد المستشري: جرائم غسيل الأموال القذرة ، جرائم الاغتصاب، جرائم السرقة والقتل والبغاء والرشوة، جرائم المخدرات .
ومن الإحصاءات المؤكدة لتوافر الأمن في المملكة العربية السعودية ومحدودية الجرائم، الإحصاء السنوي للجرائم في المملكة والذي أظهر أن عدد الجرائم في جملته عدد قليل، بالنسبة لعدد السكان، وإقامة أعداد كبيرة من الوافدين للعمل من مختلف الجنسيات .
وأن مرتكبي هذه الجرائم، هم من الأفراد، وأن الجريمة في السعودية جريمة فردية، وليست من جرائم التنظيمات الإجرامية أو العصابات .
في حين نقرأ أن جريمة قتل تقع كل عدة دقائق أو عدة ساعات، في بعض بلاد العالم المتقدم، وأن عدد الضحايا في القتل العمد يبلغ آلاف الأنفس.
إن قلة عدد الجرائم في المملكة وضآلة عدد الجرائم الخطيرة مثل قتل النفس أو الخطف أو الحريق المتعمد لا يرجع إلى الجهد الأمني وحده، مع عظم الجهود المبذولة من أجهزة الأمن والمسؤولين فيها.
وإنما يرجع قبل ذلك إلى توفيق الله، ثم إلى الترغيب في الهداية والترهيب من الغواية، والتزام الدولة السعودية بالإسلام وتطبيق أحكامه، وقيامها بالدعوة إلى فضائله، والتزام شعب المملكة في جملته بأحكام الدين الإسلامي وآدابه، وما تسهم به الهيئات والأجهزة المختصة في حفظ المجتمع وأمنه.
إن أهم الأمور التي يتأسس عليها الأمن في المجتمع المسلم، تطبيق الشريعة الإسلامية. ذلك أن المجتمع المسلم مكلف بالحفاظ على الدِّين الذي هو أول الضرورات وأهمها في حياة المسلم. وتطبيق الشريعة يعني أن ولي الأمر والسلطات الحكومية يتبعون المنهج الإلهي.
إن الشريعة الإسلامية تحقق العدل في علاقات الأفراد فيما بينهم وفي علاقة الحكام بالمحكومين. ومن شأن اختيار المنهج الإلهي نظاماً اجتماعياً أنه يجنب المجتمع التفرق والانقسام والتمزق، الذي يحدث عند اختيار منهج آخر من وضع البشر.
ومما يحقق الأمن في المجتمع المسلم أمر تظهر أهميته في العصر الحديث، لا سيما في بعض البلاد الإسلامية، ألا وهو بيان وسطية الإسلام، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومواجهة التطرف والغلو، والإرهاب المتستر بالدِّين .
وختاماً أقول: إنّ أحكام الشريعة الإسلامية حين تطبق في جميع مجالات الحياة، نظاماً اجتماعياً، تضمن للمجتمع أمنه الخارجي والداخلي. إذ إن قواعد الشريعة فيما يتعلق بأمن المجتمع الخارجي تفرض أن يُعد المجتمع العدة للدفاع عن نفسه. والأمن الداخلي تكفله أحكام الشرع الإسلامي المتعلقة بحرمة الأنفس والأعراض والأموال فيما بين الناس، فكل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية