"إلى قطبِ الدُّنيا الذي لو بفضلهِ
مَدَحْتُ بَني الدُّنيا كَفَتْهُمْ فَضَائِلُهْ
تعــوَّدَ بســط الكـفِّ حتى لو أنَّـه
ثنــاهـا لقبـضٍ لمْ تُجبـهُ أنامِـلُهْ"
قالها الأول عن عظيم في زمانه، وأجدني اليوم أتذكرك وهي تُلقى على عيني لأقول: إي وربي كفتهم فضائلك..!
أنت الذي أتيت في زمنٍ لا يمجِّد القدوة الحقة ولا ينصّب الأسوة الحسنة..
رجل الظل الذي لا يُسمع حسيس عطاه، لكن نهر مكارمه وكرمه جارٍ ومنساب.. من أولئك الذين يكتمون إحسانهم، ويطوون أسماءهم في سجلات الأخفياء.
اسمه أحمد رجلٌ قد حَمُدتْ على المسمى خصاله، كان في ذروة أيام شبابه مولعًا بالرياضة وبالكرة الطائرة على وجه الدقة، فمثّل الهلال أول أمره حتى أصبح قائدًا له ، ثم اختير لبراعته ولذيوع صيته كقائدٍ للمنتخب السعودي للكرة الطائرة، ثم إنّه وفي أوج عطائه في تلك الأيام أصيب أخوه محمد رحمه الله تعالى بفشلٍ كلوي وكان من اللازم حينها أن يجد محمدًا كلية ثالثة بعد أن فقد كلتا كلتيه بسبب الفشل الذي حل بهما، ولأن الأسخياء لا يأبهون سوى ببذل ما يستطيعون، قاسَم أحمد أخاه محمدًا كليتيه وهو الذي يعيش وقتها أبهى أيام ألقه، وأشد لمعان نجمه، لكن سجية الجود التي جُبِل عليها جعلته يطَّرح أحلامه وعشق الكرة الذي كان قد ملأ قلبه، ليضع إحدى كليتيه هِبةً في جسد أخيه وهي العملية التي لم يكتب لها الله لحكمةٍ النجاح؛ فلم يأسى أحمد لما وهب وهو الذي "لو لم يكن في كفه غير روحه؛ لجاد بها"، ثم إنه بعد هذا الأمر الذي اختاره ملء إرادته جنح للاعتزال، وتخلى أخيرًا عن معشوقته، ذاك أن ممارسة الكرة يستدعي بذل الجهد وهو الأمر الذي لا يطيقه رجلٌ بكلية وحيدة، غير أن معشوقته كرة الطائرة عادت بعد برهةِ زمن واختارته حكمًا عدلًا في ميادينها، ثم ما لبث أن اختير أمينًا عامًا لاتحاد السنوكر والبلياردو ثقةً للعدالة والأمانة التي كانت أوضح صفاته في مجاله، وكان بهذا الاختيار أول أمين لاتحاد اللعبة، قبل أن يترك مكانه خاليًا للتعصب الممقوت الذي غزى الساحة واستشرى فيها، متفرغًا من يومها لهوايته التي كان قد خُلق لها، فلا يدَّخر سؤاله حين يستبطئ أخبارك، وتُباعدك عنه الأيام، بل ويتحين الفرص ليستقصي عن حالك ويتفقد أحوالك ليبادر بالسؤال أو الزيارة، رجلٌ تجري صلة الرحم والإحسان إلى الناس وذو القربى على الوجه الأخص مجرى دمه، كأن بين عينيه عُلِّق حديث الرحم المعلقة بالعرش تنادي:
"يارب صِلّْ من وصلني فيك" ، محتسبًا في ذات الإله بره وصلته، له كفه السحاءُ بالخير كغمامة لا ينفك وابلها هطلًا، رجلًا كريمًا يدهُ يدٌ عودها على البذل فألفته واعتادت مدها، ساعيًا على الدوام لقضاء حاجة أولي رحمه، وسباقًا في ذلك سؤالًا ومعاينةً وقُربى.
ومما أذكر هنا وإني لا أغفر سهوي عن قوله إن سهوت، أنه اشترى ذات زمان استراحة يجمع فيها وذي رحمه بصفة دورية متقاربة الزمان، واستقدم لأجلها طاهيًا يقوم على ضيافة من يستقبلهم فيها..
خصص للنساء يومًا يجتمعن فيه، ثم يومًا آخر لمعشر الرجال يجتمعون فيه من كل أسبوع واضعًا في تلك الإستراحة أسباب الراحة والرفاهية ومدخلًا فيها على لفيف أحبابه كبارًا وصغارًا السرور، أما في أيام رمضان أو أيام الإجازات فقد كان يُصر على أن يجمع الكل فيها كل يوم دون أن يقبل من أيٍّ كان مشاركته في المال، ثم بعد ذلك كله يعاملنا كأنَّا نحن أصحاب الفضل عليه والمنة، لسان حاله يخبرك بقول الأول:
وإذا رُزِقْتَ مِن النَّوافِلِ ثَـرْوَةً
فامْنَحْ عَشِيرَتَكَ الأَقارِبَ فَضْلَها
واعْلَمْ بأَنّك لا تَسُودُ عَـشِـيرَةً
حتَّى تُرَى دَمِثَ الخَلائِقِ سَهْلَها
ومضة أخيرة:
من شاء أن ينظر إلى رجلٍ اسمه مِدحة للمكارم، وذكره امتدادٌ للفضائل، وهو الذي يزيد إلى الشمائل حُسنًا لحُسن؛ فلينظر إلى: "أحمد بن عبدالله الجارالله الحميد"
يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ"