الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمي الأمينe .
مرت الأيام سراعاً وها نحن على أعتاب سيد الشهور والعطاءات والمنح الربانية، فكلها ساعات هي في عمر الزمن سويعات تمضي كالثوان ويولد هلال شهر رمضان الفضيل، وفي مثل هذه الأيام وعلى مدار أعوام عديدة مضت أجدني أتأمل الآية الكريمة من سورة يوسف ((ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)) (يوسف: 49) بالرغم أنها جاءت في سياق تأويل يوسفu لحلم عزيز مصر ليصبح بعد ذلك أول وزيراً للتموين بالمعنى المعاصر.. إلا أن تأملي للآية يأخذني إلى خواطر مستمدة من معانيها الكريمة فأسقطها على شهر رمضان الكريم، نعم الكريم في عطاءاته الربانية من مغفرة ورحمة وعتق من النار.
فالشهر الكريم عندي هو بمثابة العام الذي أخبرنا به رب العزةY على لسان يوسفu ، شهر يغاث فيه الناس برحمات ربهم إن أحسنوا هم العبادة فيه وأخلصوا لربهم وانصرفوا لتحصيل ما أمر الله به ورسولهe من فيوضات ربانية لم تكن لأمم سبقتنا، ولا ينصرفوا بجوارحهم إلى ابتغاء مرضات الله، يعبدونه ليرضى فإن رضي أعطى، وعطاء العلي الجواد الكريم لا يضاهيه عطاء ...
شهر يغاث في الناس بمحو الذنوب والآثام، تلك التي جنتها أنفسهم على مدار شهور سبقته ، فمنا من كذب ليعبر موقفاً حرجاً، ونسي أن الصدق منجاة ، ومنا من اغتاب الناس في غفلة من نفسه الأمارة بالسوء، ومنا الحاقد على أخيه ، ومنا المسوف على الناس، ومن يروع الناس في أرزاقهم ، ومنا الحاسد للآخرين على نعمة بهم من الله ، ومنا المفرط في الصلوات ونوافلها ، ومنا المقتر على نفسه في الصدقات ، ومنا الهماز اللماز المشاء بنميم ... وهناك القاطع لرحمه ، والعاق لوالديه ، وآخرون يعاطون المخدرات ، ويعاقرون الخمر . وكلها آثام وذنوب ومعاصي، الواحدة منها تثقل عاتق الفرد وتكفل له عذاب السعير إن لم يقلع عنها تائباً مستغفراً الغفور الرحيم.
فإذا كان المطر وهو الغيث الذي يغيث الناس يعيد الحياة إلى الزرع والضرع وتنبت الأرض بالأخضر ويتقلص الأصفر اليابس بظهور الكلأ ، فكذلك شهر رمضان الذي اختصت به الأمة المحمدية يأتي بفيضانات لا حصر لها من الغيث الرباني للنفس البشرية أن أرادت هي أن تغسل نفسها من المعاصي والذنوب ، وتنفض عنها أدرانها التي تراكمت بأغوارها عبر شهور العام فإن هي تابت (( ويتوب الله على من تاب )) كما أخبرنا الحبيب المصطفى e طهُرت وصفت لله ولعلها تنطلق إلى السمو الروحاني بعد تخلصت من آثامها وذاقت لذة القرب في الله وجمال الطاعة والحب فيه، بعد أن تمر بمرحلة (( وفيه يعصرون)).... يعصرون ماذا؟ يعصرون أنفسهم من المادية التي أبعدتهم عن الروحانية، يعصرون أنفسهم من بخل في الطاعة لله ، وهو الكريم في عفوه ومغفرته، يعصرون أنفسهم مما علق وتعلق بها من شهوات استعرت في عالم لا يعرف إلا صناعة تزيين الشهوات ويسلك مسالك شياطين الجن في تزيينها من خلال تلك الوسائل التي أصبحت متاحة في أكف الكبار والصغار على السواء تزين لهم المحرمات على أنها أشياء عادية ، ويعصرون أنفسهم من كل قبيح يشين النفس وهم يقولون (( إنا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا)) وقد قالها من قبلنا سحرة فرعون بعد أن آمنوا وقد هددهم فرعون ووعدهم قائلاً لهم (( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ* قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ *إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)) افعل ما تريد، تقطع رؤوسنا لا ضير، تريد أن تقطع أيدينا وأرجلنا من خلاف اليمنى مع اليسرى واليسرى مع اليمنى وتعلقنا على الشجر حتى نموت افعل ذلك، كل هذا لا نبالي به ، لماذا؟
((إنا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا))، ولسنا كسحرة فرعون، فليس هناك من يهددنا ويروعنا إن نحن أقبلنا على الله ، ففي سبيل تحصيل هذه المغفرة ما عندنا مانع يحصل لنا أي شيء من صيام في شدة الحر ، من كثير قيام ليل، من بذل صدقات نطهر بها أنفسنا، من سهر ليل في تدبر القرآن أو فهم حديث نبوي أو تحصيل علم يعود بالنفع على الذات والأخرين.
يا إخواني وأخواتي ...لقد استعدت جنود الشيطان من كل حدب وصوب للإجهاز على مسامعنا وأعيينا لتفسد علينا الجمال الروحاني لهذا الشهر الكريم، وذلك من خلال تلك القنوات الفضائية والعادية ووسائل الإعلام الجديد، فقد أعدوا عدتهم من المسلسلات والبرامج بحجة الترفيه والتسلية في رمضان ... لم يكتفوا ببرامجهم الداعرة الممقوتة الداعية للرذيلة بأبعادها المتعددة على مدار العام، بل أعدوا عدة خاصة لشهر رمضان الكريم ، خاصة تلك البرامج التي تأخذ بلب الشباب والمراهقين والأطفال اليافعين وتطير بعقولهم في محاولة الكسب السريع من مسابقات مشبوهة وحوارات تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع.
فالحذر كل الحذر أن تلقي بنفسك سمعاً ورؤية لتلك المفاسد التي غيرت من جمال الشهر الكريم لدى كثير من المسلمين.. فتتعلق نفسك بشهوات الدنيا فتزداد عتامة، وتميل بك إلى التمرد على الله بالبعد عنه، فتظل حبيس النفس وشهواتها.
واعلم يا أخي ويا أختي أن النفس عندما تصفوا تنتقل لمرحلة سامية هي الروح الطيبة وكلما زاد ارتباطك بالله كلما سمت الروح حتى تطمئن فيناديها ربها Y:
(( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ))
فا فرح يا مسلم ويا مسلمة بفرح الله بنا إن رجعنا إليه تائبين منيبن .. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:"لله أشدّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب اليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلّها ، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ، ثمّ قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أخطأ من شدّة الفرح".....واعلم كل العلم أن الله هو الغني عن عباده .واسعى لأن تكون ممن قال فيهم ربنا (( إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون* نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ولكم ما تشتهي أنفسكم ولكم ما تدعون))
د . رضا عريضة
أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة الإمام محمد بن سعود