باعتبارها دولة عظمى فمن المتوقع ان يكون الجدار عظيما كذلك على غرار سور الصين العظيم الذي يعد من عجائب الدنيا السبع والذي تم بناءه بطول 7000 كيلو متر خلال فترة حكم عائلة مينغ في القرن الرابع قبل الميلاد. وتعود فكرة بناء هذا السور الى القرن الثالث قبل الميلاد عندما اعتلى عرش الصين طفل صغير لم يكن يتجاوز عمره 13 سنة ليصبح الامبراطور الأول " تشين شو وانغ تي".
تقول الأساطير ان فكرة بناء السور الصيني تعتمد أساسا على مقولة مفادها أن الامبراطور تشين رأى في منامه أنه صعد الى كوكب المريخ على متن سجادة سحرية ونظر للأسفل فوجد ان ممتلكاته في الصين غير محمية من الغزاة. فاستيقظ من نومه مذهولا وأيقظ مستشاريه كما تقول الأسطورة، وأعلن انه سيبني سورا عظيما لحماية البلاد من شر الغزاة. فأمر أحد جنرالاته المعروف بالجنرال "تانغ" بالبدء في بناء السور بشكل غير مستقيم بل متعرج، بسبب ما كان يعرف آنذاك ان الشياطين تمشي بخطوط مستقيمة ويتعذر عليها المشي بخطوط ملتوية. وما أن تم بناء السور حتى أعلن ان الصين أصبحت دولة عظيمة لا تقهر.
لم يكن هذا السور مجرد جدار فحسب وانما نظام دفاعي متكامل يتألف من العديد من الثكنات والحصون وابراج المراقبة. وبالرغم من ضخامة هذا الجدار وقوة التحصينات العسكرية فيه الا أنه تم اختراقه عدة مرات خلال غزوات المغول والتتار المتكررة. اذ تقول المصادر التاريخية أن المغول في عام 1211 للميلاد هاجموا الصين بقيادة جنكيز خان وعبروا سور الصين وانتشروا كالجراد الذي يغطي وجه الأرض كما تقول الروايات التاريخية. وقد تطلب الأمر ستين عاما حتى سقطت الصين بالكامل بيد المغول بقيادة كوبلا خان حفيد جنكيز خان والذي أعلن نفسه امبراطورا جديدا للصين عام 1271 وحكمها لمدة مائة عام تقريبا.
الآن يعيد التاريخ نفسه عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه ينوي بناء جدار على حدود بلاده مع المكسيك لمنع المتسللين والمهاجرين من اختراق الحدود الأمريكية. ليس لأنه رأى في منامه ما رآه الامبراطور الصيني الصغير، ولكنه يبرر بناء الجدار لحماية أمريكا من المهاجرين غير الشرعيين والمتسللين عبر الحدود مع المكسيك كما يقول. ولذلك تقدمت شركة إسرائيلية بطلب بناء مشروع الجدار مقابل عشرين مليار دولار، وهي ذاتها الشركة التي أنجزت مشروع جدار العزل العنصري في فلسطين المحتلة، مما اثار موجة من الغضب والاستياء حينها في أوساط الرأي العام العالمي ومنظمات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الانسان.
في اعتقادي أن هذه الحقبة التاريخية من بناء التحصينات الجدارية قد انتهت منذ زمن بعيد. وان كان للجدران قديما ما يبرر بناءها في ظل غياب القانون الدولي والمواثيق الدولية واتفاقيات الحدود الثنائية بين الدول، الا أنه في العصر الحديث ومع توفر تقنيات متطورة لأجهزة المراقبة التي يستخدمها حرس الحدود فلا يوجد أي مبرر لهدر مليارات الأموال في بناء جدران سقطت على مر العصور والأزمنة كما سقط جدار برلين بين الالمانيتين في عام 1989 أي بعد 28 عاما على بنائه وتحصينه عبر السنين بالأسلاك الشائكة وابراج المراقبة. وبما أنه كان يعتبر تقسيم لمدينة وتقسيم لشعب واحد فقد مثل انهيار جدار برلين اول خطوة عملية نحو توحيد المانيا وانتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي.
وعلاوة على هدر الأموال لبناء جدران وتحصينات فان هناك تداعيات أخرى تتعلق بحرية التنقل والاقتصاد والتبادل التجاري بين الدول التي يفصل بينها جدار حدودي. ومثال ذلك ما حدث من تداعيات كبيرة وانعكاسات خطيرة على أبناء الشعب الفلسطيني بعد بناء إسرائيل لجدار الفصل العنصري في عام 2002 بطول 670 كم، وبمسار متعرج حيث يطوق معظم أراضي الضفة الغربية وأماكن أخرى مثل قلقيلية. ويعد هذا الجدار محاوله إسرائيلية لإعاقة حياة السكان الفلسطينيين وضم أراضي من الضفة الغربية لإسرائيل. ومما لا شك فيه أن هذا الجدار يمثل انتهاكا لاتفاقية جنيف التي تنص في مادتها 33 على حظر تدابير العقاب الجماعي وتؤكد على الحق في حرية التنقل كما ورد في نص المادة 12 من اتفاقية جنيف الرابعة.
وتشير التقديرات آنذاك الى ان نحو مليون فلسطيني في الأراضي المحتلة سيهضم الجدار حقوقهم الأساسية حيث سيضطر الآلاف منهم الى استصدار تصاريح خاصة من الجيش الإسرائيلي للسماح لهم بمواصلة العيش والتنقل بين منازلهم من ناحية وأراضيهم من ناحية أخرى. ولا يزال لهذا الجدار أثر كبير على الوضع الصحي للسكان الفلسطينيين الذين يعيشون غرب الجدار، اذ من المستحيل أحيانا الوصول الى المراكز الصحية والمستشفيات الواقعة شرق الجدار، فالقرى الواقعة غرب الجدار لا تتمتع بأي خدمات صحية وفقا لمصادر رسمية فلسطينية.
ومن الناحية التعليمية كان للجدار اثارا سلبية عميقة على العملية التعليمية، فقد حرم الكثير من الطلبة والمدرسين الوصول الى مدارسهم مما أربك العملية التعليمية في العديد من المدارس. وفضلا عن آثاره على صعيد التعليم فقد كان له تأثير قوي آخر على الحياة الاجتماعية حيث أصبحت حالة التفكك والعزلة الاجتماعية سمة مفروضة على أبناء المناطق الواقعة غرب الجدار نتيجة الإجراءات العنصرية الاحتلالية التي تفرضها السلطات الإسرائيلية عبر حواجز العذاب عندما يرغب الفلسطينيون في زيارة اقربائهم او مرضاهم داخل الخط الأخضر.
استدلالا بكل هذه المعطيات التاريخية، ندرك أن للجدران تداعيات سلبية وانعكاسات خطيرة تتمثل في الحرمان من الوصول بحرية وكرامة إنسانية الى حيث يريد الانسان. وتتمثل الصفة السلبية لأي جدار عازل في تقييد حركة الناس ومنعهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي. ومن هذا المنطلق تكون فكرة الجدار غير مقبولة انسانيا كونها تتعارض مع مفهوم الانفتاح الثقافي وتواصل الحضارات في قرية عالمية واحدة.