إنّ العالم يتجدد ويتبدّل من حول المعلِّم فهو رهين تجاربه وضغوط معاشه ومتطلبات مهنته، ونتاج استهلاكه اليومي الكثيف، فيبدو قصوره ويتخلف عن الركب.
ولا يلبث المعلّم أن ينهمك في دورة الحياة فيندرج في شبكة الحياة العامة، ويجذبه المجتمع الاستهلاكي، ويجعله في سباق بين البحث عن دخل إضافي والقدرة على التجدّد المعرفي والتقني والمهني، وتكون النتيجة قصور المعلّم عن التأقلم واللحاق بالركب.
وعلى نحو مواز، فقد أصابت تحولّات ذهنية وبنيوية المجتمع الاستهلاكي، فتقلّص دور الأسرة والمهنة التربوي، وانقلبت عادات كثيرة، وزالت تقاليد شتى، ففقد المجتمع أُطُراً كان يؤدِّي من خلالها دور التنشئة الاجتماعية والخُلُقية.
وهذا كله أبرز دور المدرسة وأناط بها مسؤوليات إضافية في التنشئة والرعاية والتوجيه، فصارت المدرسة قطب الرحى في التربية.
وللأسف فإنّ مجتمعنا الاستهلاكي يضغط بازدياد في اتجاه المزيد من التسليم لمعلمين غير ذوي علم وغير ذوي أهلية ولياقة وتعليمية.
وتحوّل الطالب إلى تلميذ أو مستهلك على نحو ما تحوّل سائر الناس في المجتمع الاستهلاكي من الاقتصاد الاكتفائي الذاتي إلى اقتصاد السوق أي من الإنتاج طبقاً للاحتياج الذاتي، إلى الإنتاج طبقاً لمتطلبات السوق والتسويق.
وعلى غرار ما وقع في الاقتصاد، من تضخُّم الحجم في أدوات الإنتاج ومؤسساته وفي شبكات التوزيع التي تحولت إلى متاجر كبرى ومصالح ضخمة تبّدل شكل المؤسسة التعليمية، فتضخمت والتصقت بسائر النظام التعليمي.
ومن ثم فشلت المؤسسة التعليمية في تغليب التطبّع على الطبع. فبقي الطبع إلى حد بعيد تُرْبة تنتظر محراثاً. وطمست سلطة المعلّم والمؤسسة شخصية الأطفال، حتى باتت المدرسة أشبه بمقبرة كبيرة تُدْفن فيها براعم المستقبل.
وعليه، فان الحاجة ملحة وماسة لكي تعود التربية دُرّة التطبيع المرتجي وأمل الإنسانية الطامحة إلى مستقبل مشرق، ومَعْبر التراث إلى المعاصرة.
وهذا – بإذن الله تعالى – مرتبط بأسلوب تربوي تعليمي فريد عُرب بـ " البصفجة".
فالبصفجة – كما يقول مفيد أبو مراد في كتابه الرائع " الريادة في الثقافة والتربية " -: انقلاب تربوي، يتلخّص في الآتي:
1- يحلّ التعلّم، بل البحث محل التعليم، فيتحول التلميذ إلى طالب.
2- يتحول المعلّم إلى منظّم لأعمال البحث ومشرف على الباحثين والطلاب.
3- يحلّ الفريق المصغّر محلّ المعلم، في مناقشة الطالب.
4- يحلّ المجتمع محلّ المعلّم، في تزويد الطلاب بالمعرفة.
5-تظلّ المدرسة مرجع الباحثين الصغار، ونقطة ارتكازهم وتزوّدهم بالتوجيهات اللازمة.
وذلك لأن البصفجة لفظٌ مصنوعٌ من بدايات الألفاظ في الجملة التالية:
البحث(ب)، الصغير (ص)، فردياً (ف)، وجماعياً (ج).
أما طريقتها فتتحدد في الآتي:
أ- تنظمّ بطاقات عمل أو بحث، تغطي مختلف المواد التعليمية في مختلف المستويات.
ب- توزع البطاقات العائدة لكل درس إفرادياً ويُقرن التوزيع بشروح وتوجيهات.
ج- ينصرف الطلاب، كلٌ في سبيله، إلى البحث عن الإجابات المطلوبة، فيعملون إفرادياً داخل قاعة المستوى وخارجها، وفي كل مكان متاح، طالبين معرفة وخبرة.
د- يُعيد الطلاب البطاقات بعد إنجاز العمل المطلوب إلى المعلّم، ويدوّن ملاحظاته، وثم يعيدها إلى أصحابها دون تصحيح.
هـ- يجتمع الطلاب مجدداً، فيتوزعون إلى مجموعات صغيرة، تتراوح مع أربعة أعضاء وثمانية للمجموعة الواحدة، ثم يختار أعضاء كل مجموعة مقرِّراً لها، يُدير المناقشات، ويتسلّم في مجموعته بطاقة يدوّن عليها الأجوبة المتفق عليها في مجموعته.
و- يُطلب إلى كل مجموعة ان تؤمّن إجابة جماعية بالاستناد إلى الإجابات الفردية. بحيث تُسلّم البطاقة الجماعية للمعلّم وعليها أسماء الأعضاء في المجموعة، أما البطاقة الفردية فيحتفظ بها أصحابها، ليدونوا فيها ما استحسنوا من إجابات عند أصحابهم في المجموعة.
وبذلك ينتهي الدرس البصفجي، ثم ينتقل طلاب المستوى إلى بطاقة تالية، وهكذا...
إنّ البصفجة بما هي بحث صغير فردياً وجماعياً، تؤلف دُرْبة تدرجيه على مواجهة المصاعب، على نحو ما دعا إليه الفيلسوف الأمريكي جون ديوي.
وأول ما ترمي إليه " البصفجة " تفريج أزمة المؤسسة التعليمية وإبعاد سيف ديموقليطس عن عنقها الغض.
فالطفل يرى نفسه، " بالبصفجة " مرغماً على ملاحظة البيئة والمجتمع، لكي يجيب عن الأسئلة المطروحة عليه، إذ تُقيمه " البصفجة " باحثاً وطالباً ينشد المعرفة، ويسعى إليها، لا تلميذاً يتلقى وينتظر المؤلف المدرسي والمعلم وصانعي التقنية التربوية لكي يقدموا له الأشياء والمعلومات على طبق من ذهب.
إنّ " البصفجة " إذ هي تدفع بالمتعلم أو الطالب إلى ثنايا الحياة النشطة دون أن تتركه فيها وحيداً تؤمّن للمتعلّم صورة حقيقية عن الواقع الحيّ، وتدريباً عملياً وباكراً على مواجهته.
والمعلّم يتحوّل " بالبصفجة " إلى مشرف على البحث، بعد أن كانت مهمته أن يعطي المعلومات والآراء والأفكار.
إنّ أول مقومات " البصفجة " أنها توقف التعليم وتقيم مكانة التعلّم، أي البحث والمناقشة.
يقول مفيد أبو مراد في كتابه السابق الإشارة إليه: إنّ " البصفجة " تحمل بذاتها ضمانات الجدوى، أو القدرة على اختراق الواقع المأزوم لمعالجة احتقاناته المالية والمعرفية والإدارية والثقافية.
إنّ أفضلية المنحى " البصفجي " تتبدّى في أكثر من مجال" فالبصفجة" تفرض تناوب العملين الفردي والجماعي وتشترط تلازمهما وشمولهما مختلف المواد التعليمية.
و" البصفجة" تُنشئ علاقات يفتقدها التعليم التقليدي، فتتيح التعامل الحميم بين الطلاب من خلال المجموعة البحثية، وتعيد الجسور مع سائر المجتمع من خلال البحث الإفرادي.
و" البصفجة" تفتح المدرسة على موارد هائلة.
و" البصفجة" تضمن ثلاثة مكاسب أو فوائد للنظام التعليمي:
1- تركيز التعليم على منطلقات سلوكية فردية وجماعية راسخة ومتلازمة.
2- إعادة اللحمة بين المدرسة والحياة، وعقد المصالحة بين الخبر والخبرة وبين التعليم والإعلام.
3- خفض تكلفة التعليم، باستخدام مواد المجتمع التعليمي.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
و" البصفجة " تعيد للمعلّم ومدرسته مجداً مفقوداً، إذ تجعل من المعّلم مشرفاً على التعليم ومنظماً وراعياً للعملية التعليمية، وحكماً رضائياً عند الاقتضاء، كما تجعل المدرسة منطلق التعلّم المنهجي والتنظيمي، ومحور الاهتداء في تحويل المعلومات والمعطيات المستفادة من البيئة إلى معرفة عملية مبوّبة.
وهكذا تجمع " البصفجة " الجهد والاكتشاف والسعي، إلى لذة الاستمتاع بالواقع الحيّ ومعطياته فيتحقق التوازن المنشود للإنسان، ومعه التوازن في العمران، والتهيّؤ لمباشرة القرن الحادي والعشرين بشجاعة وثقة.
فالقرن الحادي والعشرون قادمٌ في طبل وزمر، حاملاً معه الوعود المعسولة والمخاطر الرهيبة في آن واحد.
إنّ القرن الحادي والعشرين، بما هو مقدمة للألف الثالث الميلادي مدّعو، من المنظور الإنساني لأن يقف من المصير البشري وقفة تأمل ومحاسبة، لكي يستطيع البشر أن يظلّوا أسياد أنفسهم ومصيرهم دون تقليد أو تبعية، وفي موقع الريادة.