كثيرون هم المؤملين في الدنيا ويسؤهم ذكر الموت ..وإن ذكرتهم بالآخرة ينظرون إليك بامتعاض ولا يترددون عن وصمك بالشخصية الكئيبة ( مكتئب ) متناسين الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الشك بأي نسبة وهي الموت مصير كل مخلوق ..فقد مات الأنبياء ، ويأخذهم الغرور بأن العمر سيمتد بهم لتحقيق ما يريدون ...ومنذ متى يقنع الإنسان بما حقق؟ فحياة الخلود بالدنيا مشكوك فيها بنسبة المائة في المائة ...هكذا خبرت أن الموت والحياة صنوان للإنسان وغيره للمخلوقات ، خُلقنا من عدم ( أبونا آدم ) ونصير إلى عدم في الدنيا ، وعيش آخر في البرزخ ثم عيش الخلود الأبدي في الآخرة .
والداعي لما سبق أنه في صبيحة عودتنا من مكة المكرمة بعد أداء مناسك العمرة، تلقيت من أحد الأصدقاء مقطعاً مصوراً لأحد الشباب الدعاة وهو يخطب في الناس عن الموت بلغة بتأثر شديد ، وحسب ما حملني صديقي من أمانة نشر هذا المقطع فأرسلته إلى معظم قائمة الواتساب المسجلة عندي. ولم تمضي ساعة حتى جائني رداً صادماً من أحدهم مسجلاً صوتياً يصفني بأنني رجل كئيب وما كان لي أن أرسل له هذا المقطع . توقفت كثيراً أمام هذا الرد الصادم من هذا الذي يُدرِس الصحة النفسية بإحدى الجامعات العربية، ومراراً استمع للتسجيل الصوتي لعلي أجد نبرة تنم عن أنه يناوشني ليمازحني فلم أجد إلا رداً قاسياً بدا من نبرات الصوت وأسلوب الآداء.
تذكرت أحاديث سيدنا رسول الله r عن الموت ، وتذكرت عدد آيات الموت والحياة في القرآن الكريم وكذلك آيات الدنيا والآخرة . وحدثتني نفسي أنه يقيناً أن ذكر الموت علامة من علامات الصحة النفسية للمسلم المؤمن ، لأن أحاديث رسول الله e لا يمكن أن تستهدف إصابة المسلم بالاكتئاب أبدا ..أبدا.. فحديث (( أكثروا ذكر هاذم اللذات ـ الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه)) فسبحان الله وصدق رسوله الذي لا ينطق عن الهوي يعلمنا أن ذكر الموت أحد دروب الخروج من الضيق والهموم ، إذا هو علاج نعم هو علاج ، وقلت يبدو أن مصادر تدريس الصحة النفسية المستمد معظمها من مدارس علم النفس الغربية لعبت دورها لدى الكثير أمثال صديقي في الركون لطول الأمل بالحياة. وأدعوهم إلى تدبر المعاني الدالة على سلامة الصحة النفسية والعقلية أيضاً مع ذكر الموت الواردة في الحديث الآتي : عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : أَكْثَرَهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الآخِرَةِ. رواه ابن ماجه،وقال العراقي:إسناده جيد.
فكون أن أكيس الناس؛ أي أذكى الناس، أي العقلاء الأذكياء, أي ما من إنسان على وجه الأرض أعقل ممن يذكر الموت دائماً، لأنه ما من حدث أشد واقعية من الموت، لا ينجو منه أحد.
وأقول لهؤلاء من يصفون ذاكري الموت بالمكتئبين .. أليس ذكر الموت يستوقف المسلم ليعيد حساباته مع نفسه وليكون دافعاً وحافزا للمبادرة بالتوبة والاستعداد للآخرة والإكثار من الطاعات، مما ينعكس عليه بحالة من الطمأنينة النفسية فيعمل ليرضى الله عنه، إن تذكر الموت وجعله نصب عينيك قمة من قمم الإيمان بالله واليوم الأخر ، وإلا ما وصف الرسول المتفكرين والذاكرين للموت بالعقلاء الذين ينالون شرف الدنيا والكرامة في الآخرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام يتمثل في : هل نزل القرآن الكريم على محمد بن عبدالله r ليعلمنا الكآبة والهم والحزن ؟ استغفر الله من هذا القول ..ولكنه سؤال أطرحه على هؤلاء الذين يوصمنك بالاكتئاب والسوداوية على عينيك ولا تعرف العيش إلا في الهم والنكد ...الخ .
أيضاً هل سمع هؤلاء المؤملين عن رسول الله أو صحابته أو العلماء من السلف الصالح أنهم يكتئبون بذكر الموت .
لقد ذكرني هذا الرد الصادم بالحملة الإعلامية المشوهة في حقيبة الثمانينيات التي شنها العلمانيون واللادينيون وكارهي الإسلام والمستغربون والمتنطعون للنظام في مصر وبعض البلدان العربية على شركات انتاج شرائط الكاسيت لمشاهير الدعاة في مصر وبعض دول الخليج ، واتهموا تلك الشركات بإشاعة مناخ التشاؤم والخنوع والاستسلام للواقع بما تنتجه من مضمون ديني يناقش كل أمور المسلمين وأحوالهم، واتهموها أيضاً بأنها تسببت في حالات العزلة والانطواء لدى كثير من الشباب الذين خرجوا بحالة طرح نفسي متمثلة في العنف والإرهاب ...وصودرت الكثير من منتجات هذه الشركات وتم الاستيلاء على أصولها....وتمضي الأيام بأحداثها وتتطور وسائل الإعلام وندخل في عصر معلوماتي يقفز بسرعة الصاروخ في التطور التقني للوصول لأصقاع الأرض ...ومعه تزداد الجماعات الإرهابية ...ويعاني الشباب والمراهقين والأطفال من العزلة والاكتئاب والتفسخ الأسري والانحلال الأخلاقي أيضاً. فهل من تفسير لذلك لديكم يا مؤملين ؟
وليس أخراً فعن البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا. رواه ابن ماجه،وحسنه الألباني.
وقال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة. اهـ.
اللهم اشرح صدورنا لحبك وحب من يحبك وحب رسولك وحب من يحب رسولك ...وارزقنا حسن الخاتمة
د . رضا عريضة
مستشار أكاديمي بجامعة الإمام محمد بن سعود