ما إن تقف بسيارتك في إحدى إشارات المرور بالتقاطعات الرئيسة التي تؤدي بك إلى البطحاء أو منفوحة إلا وتجد هجوما من فريقين كل فريق ما بين أربعة أو خمسة أطفال أعمارهم بين الثامنة والثانية عشرا تقريباً ، فريق يأتيك عن اليمين والآخر عن الشمال ، صغيراً يطرق زجاج مشيراً بطلب مال ، وآخر بيده بخاخة سائل منظف يلقى بختين على الزجاج الأمامي وثالث بيده ماسحة الماء صغيرة الحجم ليمسح بها الماء ...والفريق الآخر يتجه أعضاؤه من الإناث الصغار لمن بجوارك يطلبون الإحسان ...وهكذا إلى أن يظهر الضوء الأخضر للإشارة إيذانا بالسير.... وهكذا الحال مع كل تقاطعات شوارع المنطقة الجنوبية ... وقد انتقل المشهد منذ وقت قريب لبعض شوارع شمال الرياض الرئيسية..
لم يمر بي المشهد مرور الكرام، حيث ترسخت بذهني الصورة التي حملتها للمجتمع السعودي المتطور الناهض الذي يأخذ بأحدث الأساليب العلمية في التخطيط العمراني والنهضة التعليمية، وما قرأته وشاهدت وما سمعته من أقاربي وأصدقائي الذين سبق لهم العمل بالمملكة، وملامحها تلك الصورة إيجابية للغاية.. الالتزام السلوكي في الشارع ـ الأخلاقيات العامة للناس في الشارع ...ولم يخطر ببالي أن أطفال الشوارع سيتواجدون في الرياض العاصمة الأخذة في التطور الدائم، ولم تتوقف عن مواكبة التغيير بما ينفع الناس وييسر عليهم حياتهم.
المشهد غريب على تصوري الذهني عن الرياض، وإن لم يكن غريباً عني في موطني الأصلي مصر، فقد عملت لفترات مدرباً للإخصائيين الاجتماعيين والنفسانيين العاملين بالجمعيات المعنية بأطفال الشوارع، واقتربت من هذه الشريحة العمرية التي تفت في عضد المجتمع رغماً عنها، فهي مدفوعة للشوارع دفعاً بفعل عدة عوامل على راسها الفقر المادي، والتشرذم الأسري، وفقر البيئة الاجتماعية ...فيخرجون للشوارع يتسولون، يبيعون المناديل الورقية.. وفوط ماسحة السيارات.. ومنهم من يروج للمخدرات بأنواعها....
تساءلت بين نفسي، هل من المعقول أن مجتمعاً به هذا الكم من جمعيات التكافل الاجتماعي بين أبناؤه يمكن أن يظهر فيه هذه الشريحة من عيال الشوارع؟ وتعددت الأسئلة.. هل هؤلاء الأطفال خرجوا من بيوت سعودية؟ أم أنهم من أُسر استوطنت هنا للعمل منذ زمن طويل؟ أو من الهاربين مع أسرهم من بلادهم التي تتنازعها الحروب ...الخ .
حاولت أن أدرس الظاهرة علمياً من خلال الحصول على إحصاءات رسمية أبني عليها فكرة دراسة ميدانية، والحقيقة لم أوفق لذلك، فموقع وزارة الشؤون الاجتماعية لا يتضمن مثل هذه الإحصاءات وإن كان يتضمن التقارير السنوية.. ولا تتضمن رصدا إحصائياً لعدد هؤلاء الذين ينتشرون في شوارع العاصمة ويقبحونها.. وكذلك تقارير وزارة الداخلية لم أجد فيها بغيتي. والمتوفر من إحصاءات اجتماعية في بعض الدراسات القديمة لا يمكن التعويل عليه، كذلك ما تنشره بعض المجلات والصحف الوطنية.
لذا فضلت الإشارة عن ((أطفال الشوارع)) وقد أصبحوا ظاهرة، لعل الباحثين من أبناء المملكة يكونون أوفر حظاً في الحصول على إحصاءات رسمية تمكنهم من دراسة ظاهرة تمثل خطراً تسلل بالفعل إلى ساحات المجتمع السعودي. فمن هؤلاء المشردين سيكبر اللص المحترف سارق المحلات ، وخاطف الحقائب، وسارق الجوالات، ومروج المخدرات، إلى أخر ما نتخيله من صور الإجرام.
وإني أناشد أهل الخير والعاملين بالجمعيات الأهلية الخيرية والمؤسسات العامة ذات المسؤولية الاجتماعية انظروا لهذه الفئة من الأطفال وقد دفعهم الفقر المدقع، وسوء الأحوال الأسرية، والهاربين من بلادهم بسبب الحروب.. إلى الشارع، انظروا إليهم بعمل إيجابي يرعاهم ويعيد تأهيلهم للحياة قبل أن يشبوا مجرمين فيكتوي المجتمع من عداءهم له، سواء مجرمين، أو أجسادا أصابها المرض جراء التشرذم فتصبح عالة عليه.
د . رضا عريضة
مستشار أكاديمي بجامعة الإمام محمد بن سعود