حينما يقضي الله أمراً كان مفعولاً ..! فما الذي يحول يا أهل العقول دون أن ينجز الله وعده (لو كنتم تعقلون)؟!
الله الخالق الذي خلق وأحسن كل شيء خلقه !
الله الذي استحلف آدم عليه السلام في أرضه!
الله من علّم آدم الأسماء كلها !
الله من خلق كل نفس وخلق منها زوجها !
وهو الذي قال للقلم اكتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة !
الرحمن خلق الإنسان علمه البيان!
خلق الإنسان من علق..
الذي علم بالقلم ،علم الإنسان مالم يعلم !
هو الله ربكم ورب آباءكم الأولين !
هو الملك القدوس السلام المؤمن "المهيمن"!
فمن أنت يا أيها العبد الفقير .. وما غرك بربك الكريم يا أيها "الإنسان"؟
معاشر التراب..
يا من تدّعون الجبروت وتأنفون من الثرى .. !
أما دار في خلد بن آدم وأنت يا إنسان إنى لك الجبروت وأنت من طين ؟!
قل لا أله إلا أنت سبحانك .. و (تعترف) : إني كنت من الظالمين!
فليس لك ولا لي ولا للعالمين من الأمر شيء ..
نحيا بأمره وحكمته ونموت بقضائه وقدره!
وحده المتصرف والمبديء والمعيد.. ولا راد لما قضاه ولا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى..
يخلق ما يشاء ويختار !
لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون.
إذن من أنت أيها المخلوق ؟
هنالك وعند هذا اليقين تعجز كل القوى والتكتلات أن تعيق أمراً أراده الفعال لما يريد! وما من قوة ستحبس القطر من السماء! والكون كل الكون عاجز أن يعيد قطرة واحدة إلى سحابة!
تنهار وتتلاشى كل المشيئات الأرضية وتتعطل اﻷنظمة الكونية أمام مشيئة رب الأرض والسماوات...!
الله الذي بيده الأمر، ويدبر الأمر، وإليه يرجع الأمر كله.
أراد الله بحكمته واختياره وقدره لهذه الأرض الطيبة (المملكة العربية السعودية) أن تبقى آمنة مطمئنة عالية الراية، ناصعة الجبين ، قوية الشكيمة والسؤدد ، عصية على الغزاة والبغاة والطامعين .
رمزاً ومثالاً شاهداً على خسران كل من رامها بفتنة أو قصدها بسوء .
ومنذ بزوغ فجر السعودية على يد المؤسس العظيم الإمام الصالح الهمام الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ، الذي أرسى قواعد كيان متين ، ووحد الأقطار والقلوب والشعوب، ليمضى على نهجه وسيرته من بعده بنوه الأشاوس وأحفاده الشجعان.. ولا تزال بلادنا في كنف الله آمنة، وفي ظل ملوكنا وولاة أمرنا مطمئنة.
وذاك حكم قضى به الله ، وقدر قدره فالق الحب والنوى .
(رب اجعل هذا البلد آمنا)..
دعوة نبوية موحى بها من الله.. مقبولة رضيها، مباركة من عنده تعالى ومستجابة منه وهو السميع المجيب.. الذي يفعل ما يشاء ، و يشاء ما يفعل .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)
سورة البقرة
(( يقول الحق سبحانه وتعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا " .. وما دام الله قد جعل آمنا فما هي جدوى دعوة إبراهيم أن تكون مكة بلداً آمناً .. نقول إذا رأيت طلباً لموجود فاعلم أن القصد منه هو دوام بقاء ذلك الموجود .. فكأن إبراهيم يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يديم نعمة الأمن في البيت .. ذلك لأنك عندما تقرأ قول الحق تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً(136)
(سورة النساء)
هو خاطبهم بلفظ الإيمان ثم طلب منهم أن يؤمنوا .. كيف؟ نقول إن الله سبحانه يأمرهم أن يستمروا ويداوموا على الإيمان .. ولذلك فإن كل مطلوب لموجود هو طلب لاستمرار هذا الموجود. وقول إبراهيم: "رب اجعل هذا بلداً آمنا" .. أي يا رب إذا كنت قد جعلت هذا البيت آمناً من قبل فأمنه حتى قيام الساعة .. ليكون كل من يدخل إليه آمناً لأنه موجود في وادٍ غير ذي زرع .. وكانت الناس في الماضي تخاف أن تذهب إليه لعدم وجود الأمان في الطريق .. أو آمناً أي أن يديم الله على كل من يدخله نعمة الإيمان.
وقوله تعالى: "اجعل هذا بلداً آمناً" تكررت في آية أخرى تقول: "اجعل هذا البلد آمناً" .. فمرة جاء بها نكرة ومرة جاء بها معرفة .. نقول إن إبراهيم حين قال: "رب اجعل هذا البلد آمناً" .. طلب من الله شيئين .. أن يجعل هذا المكان بلداً وأن يجعله آمناً. ما معنى أن يجعله بلداً؟ هناك أسماء تؤخذ من المحسات .. فكلمة غصب تعني سلخ الجلد عن الشاة وكأن من يأخذ شيئاً من إنسان غصباً كأنه يسلخه منه بينما هو متمسك به.
كلمة بلد حين تسمعها تنصرف إلي المدينة .. والبلد هو البقعة تنشأ في الجلد فتميزه عن باقي الجلد كأن تكون هناك بقعة بيضاء في الوجه أو الذراعين فتكون البقعة التي ظهرت مميزة ببياض اللون .. والمكان إذا لم يكن فيه مساكن ومبان فيكون مستوياً بالأرض لا تستطيع أن تميزه بسهولة .. فإذا أقمت فيه مباني جعلت فيه علامة تميزه عن باقي الأرض المحيطة به.
وقوله تعالى: "وارزق أهله من الثمرات" .. هذه من مستلزمات الأمن لأنه ما دام هناك رزق وثمرات تكون مقومات الحياة موجودة فيبقى الناس في هذا البلد .. ولكن إبراهيم قال: "وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم" فكأنه طلب الرزق للمؤمنين وحدهم .. لماذا؟ لأنه حينما قال له الله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً (من الآية 124 سورة البقرة)
قال إبراهيم: وَمِن ذُرِّيَّتِي (من الآية 124 سورة البقرة)
قال الله سبحانه: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (من الآية 124 سورة البقرة)
فخشى إبراهيم وهو يطلب لمن سيقيمون في مكة أن تكون استجابة الله سبحانه كالاستجابة السابقة .. كأن يقال له لا ينال رزق الله الظالمون فاستدرك إبراهيم وقال: "وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم" .. ولكن الله سبحانه أراد أن يلفت إبراهيم إلي أن عطاء الألوهية ليس كعطاء الربوبية .. فإمامة الناس عطاء ألوهية لا يناله إلا المؤمن، أما الرزق فهو عطاء ربوبية يناله المؤمن والكافر لأن الله هو الذي استدعانا جميعاً إلي الحياة وكفل لنا جميعاً رزقنا .. وكأن الحق سبحانه حين قال: "لا ينال عهدي الظالمين" .. كان يتحدث عن قيم المنهج التي لا تعطى إلا للمؤمن ولكن الرزق يعطى للمؤمن والكافر .. لذلك قال الله سبحانه: "ومن كفر" .. وفي هذا تصحيح مفاهيم بالنسبة لإبراهيم ليعرف أن كل من استدعاه الله تعالى للحياة له رزقه مؤمناً كان أو كافراً والخير في الدنيا على الشيوع. فمادام الله قد استدعاك فإنه ضمن لك رزقك.
إن الله لم يقل للشمس أشرقي على أرض المؤمن فقط، ولم يقل للهواء لا يتنفسك ظالم وإنما أعطى نعمة استبقاء الحياة واستمرارها لكل من خلق آمن أو كفر .. ولكن من كفر قال عنه الله سبحانه وتعالى: "ومن كفر فأمتعة قليلاً" .. التمتع هو شيء يحبه الإنسان ويتمنى دوامه وتكراره. وقوله تعالى: "فأمتعه" دليل على دوام متعته، أي له المتعة في الدنيا ، ولكل نعمة متعة، فالطعام له متعة والشراب له متعة والجنس له متعة .. إذن التمتع في الدنيا بأشياء متعددة ، ولكن الله تبارك وتعالى وصفه بأنه قليل .. لأن المتعة في الدنيا مهما بلغت وتعددت ألوانها فهي قليلة.
واقرأ قوله تعالى: "ثم أضطره إلي عذاب النار" .. ومعنى أضطره أنه لا اختيار له في الآخرة، فكأن الإنسان له اختيار في الحياة الدنيا يأخذ هذا ويترك هذا ولكن في الآخرة ليس له اختيار .. فلا يستطيع وهو من أهل النار مثلاً أن يختار الجنة بل إن أعضائه المسخرة لخدمته في الحياة الدنيا والتي يأمرها بالمعصية فتفعل، لا ولاية له عليها في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) (سورة النور)
أي أن الجوارح التي كانت تطيع الكافر المعاصي في الدنيا لا تطيعه يوم القيامة؛ فاللسان الذي كان ينطق كلمة الكفر والعياذ بالله يأتي يوم القيامة يشهد على صاحبه .. والقدم التي كانت تمشي إلي أماكن الخمر واللهو والفسوق تشهد على صاحبها، واليد التي كانت تقتل وتسرق تشهد على صاحبها. وقوله: "أضطره" معناه أن الإنسان يفقد اختياره في الآخرة ثم ينتهي إلي النار وإلي العذاب الشديد مصداقاً لقوله تعالى: "ثم أضطره إلي عذاب النار وبئس المصير" .. أي أن الله سبحانه وتعالى يحذر الكافرين بأن لهم النار والعذاب في الآخرة ليس على اختيار منهم ولكن وهم مقهورون )).
لتبفى البلد الحرام لنا وطناً وللأمة وطناً وللسلام وطناً وللعالمين قبلة، ومهوى ﻷصدق القلوب وأنقى الأفئدة .. حقيقة باقية خالدة ، وحجة قوية ودامفة ، ساحرة البيان، سامقة البنيان راسخة .
وطن الهدي والهدى ، مهبط ومهد ومنطلق التوحيد .منار ودار ومنبع التحرير و الحرية ، ومنها كسرت قيود الرق، وأغلال العبودية ،وتحطمت تماثيل وأحجار الذل والأوهام.. ولتخسأ الأصنام! وأفرد الله الخالق المعبود بالعبادة دون ند ولا شريك ولا شبيه ولا وسيط ولا مثيل .
هذه هي (البلد الحرام) قاهرة الطغيان والخطوب والنزغات وأحقاد الباغين والعادين وكل المعتدين من بشر وحجر وكل طاغوت وكل شيطان مريد!
وها هي الأحداث شاهدة مؤكدة على حقيقة لاشك فيها أبداً ، وها هي مصارع الهالكين من جند الشر و الضلال تروي حكايات هلاك الخائبين وتسطر حسرات المارقين وأعوان الشيطان، و فيه دلالة على أن أرض الحرمين محفوظة محفوفة بكلائة الله وفي عينه تعالي الذي استخلف عليها ملوكاً صالحين، واصطفى لها حكاماً راشدين.
وفي بيان وزارة الداخلية الأخير للمتبصرين آية وعظة ورسالة وعبرة.
حفظ الله بلادنا ومليكنا وولاة أمرنا وأدام علينا نعمه وأمنه وألبسنا لباس التقوى .. والتقوى خير ستر ولباس.