يقول جيري ماندر: ((أنا شخصياً لم أصادف أي رجل إعلان يعتقد صراحة بوجود أي حاجة لـ99% من المواد الاستهلاكية التي تملأ موجات الأثير، وصفحات الصحف والمجلات...)).
إن في الغرب مفكرين يطلقون الصرخات بين الحين والآخر، منذرين قومهم، ومشيرين إلى مكمن الداء، وإن لم يوفقوا بَعْد في الوصول إلى حلول تناسب فطرة الإنسان ومتطلباته.
ومن هؤلاء (جيري ماندر) المفكر الأمريكي الذي أفزعه ما تحقق لديه - نتيجة خمسة عشر عاماً عاشها مدير دعاية وعلاقات عامة - من آثار التليفزيون - كإحدى وسائل الإعلام - المدمرة للإنسان، فألف كتاباً دعا فيه إلى التخلص من التليفزيون أسماه (أربع مناقشات لإلغاء التليفزيون) استطاع من خلاله الإشارة إلى مكامن الخطر في هذا الجهاز العجيب، وكانت آراؤه وليدة تجربة حقيقية لطبيعة عمله في مجال الإعلام، مما أتاح له ملاحظة ما لأجهزة الإعلام من تأثير انحرافي في هذا العالم، يتعذر اجتنابه أو تفاديه.
لقد فاقت جاذبية التليفزيون قديما وللأسف حاليا الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي كل حد، حتى أضحت إدماناً استسلمت له طوائف كثيرة من الناس، ودخلت الهواتف الذكية إلى المصنع والمتجر، ورافقت المسافرين في مركباتهم، والمتنزهين في نزهاتهم، حتى أصبحت الرفيق الدائم الذي لا يُمل. وطاب لكثير من الناس أن يتناولوا طعامهم أمام شاشة التليفزيون أو شاشة الجوال، ليساعدهم على ازدراد الطعام والتهام أكبر كمية منه، حتى أطلقوا في أمريكا على طريقة الأكل هذه (غذاء التليفزيون)، والتي تشير إلى أن الناس غدوا يتناولون وجبات طعامهم أثناء مشاهدة التليفزيون؛ إذ يستسلم شعورهم وإحساساتهم للبرامج، فلا يدرون كم أكلوا وشربوا.
ومما لاشك فيه أن للتليفزيون - وغيره من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ـ آثاراً خطيرة على اقتصاد الفرد والجماعة، إذ هي أصلاً سلعة ليست رخيصة، وابتياعها يعطي دافعاً قوياً للإعلام الاستهلاكي والنظام الاستهلاكي.
إذ تعتبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة محرضاً قوياً على الاستهلاك؛ بما تمتلكه من الثقة لدى معظم المشاهدين والمتابعين، وبما تبثه من البرامج المعدّة خصيصاً لتوجيه الجمهور ودفعه إلى الاستهلاك.
ولعل الأسر التي تقتني مثل هذه الوسائل تشعر منذ أن تقوم بدفع ثمنها بانتقالها إلى مرحلة جديدة في نمط جديد للحياة اليومية، وما دامت اللحظات الأولى لامتلاك وسيلة الإعلام والتواصل تقترن بدفع مبلغ من المال ليس باليسير بالنسبة لمعظم الأسر على امتداد وطننا الإسلامي، فإن هذا يعني تدريب هذه الأسر على اقتحام مجال الإسراف الذي تبدو أهم ملامحه في تلك الفوضى التي لا تعرف توازناً بين الحق والواجب، والأهم والمهم، والضروري والكمالي.
وقد قيل إن اقتناء التليفزيون أو الجوال أو أحدهما يعدّ إشارة واضحة لتخطي الأسرة حدود الاقتصاد في المعيشة، إلى الانغماس في حمى الاستهلاك التي يعمل منتجو السلع على تعميمها وإشاعتها.
وهكذا، يتبين لنا بشكل واضح ما لهذه الأجهزة والوسائل من آثار سلبية على الفرد والجماعة، ولذلك فإن من الخير لنا - أفراداً وأمة - أن نقدم الأهم على المهم والضروري على الكمالي، والنافع على الضار، وألا نصدق أن مقالة اللحاق بركاب التقدم تعني الاستمساك بأسوأ ما لدى الأمم من التطلعات السُّفلية التي ما هبّت رياحها على قوم إلا حاولت أن تقتلع منهم جذور الخير والطهر والكرامة.
إن الإعلام الآن بتعدد وسائله تحول إلى سلطة من جهة، وأداة لتشكيل الرأي العام وصناعته من جهة أخرى .